قصة الطبيب لانطوان تشيخوف وترجمه للعربية زينب يونس عبود
قصة (The Doctor) للكاتب الروسي أنطون تشيخوف
ترجمة زينب يونس عبود /جامعة البصرة / كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم اللغة الإنگليزية
(الطَّبيب)
كان الهدوء يعم غرفة الضيوف إلى درجة أن طنين ذبابة منزلية كانت قد دخلت من الخارج يمكن سماعه بوضوح آتيا من سقف الغرفة.
كانت سيدة الفيلا أولغا افانوفنا واقفة قرب النافذة تنظر إلى سنادين الورد وتفكر، وكان الطبيب تسفيتكوف صديقها القديم قبل أن يصبح طبيبا قد أرسل ليعالج ابنها ميشا، كان يجلس على كرسي مريح يمايل قبعته بكلتي يديه وكان يفكر أيضا.
فيما عداهما لم تكن هناك روح لا في غرفة الجلوس ولا في الغرف المجاورة، وغربت الشمس وبدأت ظلال المساء تخيم في الزوايا تحت الأثاث وعلى الأفاريز، كسرت أولغا إيفانوفنا الصمت قائلة من غير أن تستدير عن النافذة " ليس من الممكن تخيل سوء حظ أفضع من هذا "
"أنت تعرف أن الحياة لا قيمة لها بالنسبة لي من دون الصبي".
قال الطبيب" نعم، أنا أعرف ذلك" .
قالت أولغا إيفانوفنا بصوتها المرتجف "انه كل شيء بالنسبة لي ، انه فرحي وسعادتي وثروتي، وإذا كان الأمر كما تقول أن ...سوف ينتهي
دوري كأم ، فلن يبق هناك شيء لي سوى خيال فلا أستطيع البقاء على قيد الحياة".
مشت اولغا إيفانوفنا من نافذة إلى أخرى وهي تفرك بيديها واستمرت قائلة:
عندما ولدته أردت أن أرسله بعيداً إلى مستشفى فوندلنغ، أتذكر ذلك؟
ولكن يا إلهي كيف يمكن مقارنة ذلك الوقت مع الآن؟
في ذلك الحين كنت مبتذلة وحمقاء ومغفلة ولكنني أمٌ الآن ، هل تفهم؟ أنا أم ، وهذا كل ما يهمني معرفته. إن بين الحاضر والماضي ثغرة واسعة لا يمكنني عبورها.
عم الصمت مجددا وتحول الطبيب من مقعده إلى الأريكة وعبث بقبعته بضجر وأبقى عينيه مثبتتين على أولغا افانوفنا وبان على وجهه بأنه يريد أن يتكلم وكان في انتظار لحظة مناسبة .
قالت السيدة وهي تلتفت إليه " أنت صامت، ولكنني مازلت لم أفقد الأمل "
أجاب تسفيتكوف " يتوجب علي أن أبتهج مثلك لوجود أي أمل يا أولغان ولكن ليس هنالك أي أمل ، يجب علينا أن ننظر لوجه الحقيقة البشعة، إن الصبي مصاب بورم في الدماغ لذا يجب علينا أن نحاول تهيئة أنفسنا لتقبل وفاته لأن مثل هذه الحالات لا تشفى مطلقا".
"نيكولاي! هل أنت متأكد من أنك لست مخطئا ؟"
"مثل هذه الأسئلة لا تؤدي إلى شيء وأنا مستعد للإجابة كما تشائين ولكن هذا لا يجعلنا بحال أفضل ".
احتضنت أولغا ستائر النافذة وبدأت تنتحب بمرارة ، قام الطبيب ومشي عدة مرات جيئة وذهابا في غرفة الضيوف ثم ذهب إلى المرأة الباكية ولمس ذراعها برفق، بالحكم على حركاته غير الواثقة ومن تعابير وجهه الحزينة الذي بدا داكنا في غسق تلك الأمسية فأنه كان يريد أن يقول شيئا.
بدأ يقول" اسمعي أولغا"
"انتبهي لي للحظة، هناك شيء يجب أن أطلبه منك. "
"بما أنك لا تستطيعين أن تنتبهي لي الآن سآتي لاحقا فيما بعد"
جلس تسفيتكوف مرة أخرى وأستغرق في التفكير بينما استمر ذلك البكاء المرير الممزوج بالتضرع والذي كان يشبه بكاء طفلة صغيرة.
تنفس تسفيتكوف الصعداء وخرج من غرفة الضيوف وذهب إلى غرفة
الأطفال حيث يوجد میشا . كان الصبي ممددا على ظهره كما كان من قبل يحدق في نقطة واحدة وكأنه يستمع إلى شيء .
جلس الطبيب على سرير میشا وجس نبضه سائلا إياه "هل رأسك
يؤلمك؟"
أجاب میشا ولكن ليس على الفور" نعم ، ما زلت أحلم "
" بماذا تحلم؟"
"بكل أنواع الأشياء"
إن الطبيب الذي لم يكن يعرف كيفية التحدث مع النساء الباكيات ولا مع الأطفال مسح على رأس میشا وتمتم قائلا:
"لا عليك أيها الولد المسكين ... لا يمكن للإنسان مواصلة الحياة من دون مرض... میشا، من أنا... هل تعرفني؟"
میشا لم يجب.
هل وجع رأسك سيئ للغاية؟
جدد " ما زلتُ أحلم "
بعد أن قام بفحصه وسأل الخادمة التي كانت تعتني بالطفل المريض
بضعة أسئلة ،رجع الطبيب مرة أخرى بهدوء إلى غرفة الضيوف ،
حل الظلام هناك الآن ، و أولغا إيفانوفنا مازالت واقفة قرب النافذة وكأنها خيال .
سألها تسفيتكوف "هل أشعل الضوء "؟
لم تجبه ، ومازالت الذبابة تطير باتجاه السقف، ليس ثمة صوت يتدفق من الخارج وكأنما العالم كله كان يفكر بصمت مثل الطبيب حيث لا يستطيع حمل نفسه على الكلام.
لم تكن أولغا إيفانوفنا تبكي الآن ولكنها تحدق بصمت عميق في سنادين الورد حينما لمح من خلال الغسق وجهها الشاحب المرهق بالحزن، لقد كان كما شاهده من قبل خلال نوبات صداعها المرضي الحادة.
خاطبته " وما رأيك في استشارة نيكولاي تروفيتمتش؟"
أجابها " جيد جداً، أنا سوف أرتبها غدا "
من خلال نبرة صوت الطبيب يمكن بسهولة معرفة أنه علق أملا ضئيلا في جدوى مثل هذه الاستشارة.
تمنت أولغا إيفانوفنا أن تطلب منه شيئا آخرا ولكن نشيج بكائها منعها من ذلك ، ومرة أخرى دست وجهها في ستائر النافذة وفي تلك اللحظة كان عزف الفرقة الموسيقية في النادي يتدفق بوضوح فهما لا يسمعان أصوات الرياح فقط وإنما حتى أصوات الكمانات والمزامير.
سألت أولغا " إذا كان يتألم فلماذا هو ساكت !!؟"
" طوال اليوم لا يشكو ولا يصرخ أبدا !"
"أني أعلم أن الله سوف يأخذ هذا الولد المسكين منا لأننا لم نعرف كيف نقدره مثل أي كنز!"
أنهت الفرقة الموسيقية تقديمها وبعد قليل بدأت العزف بنشاط وصخب لافتتاح الحفلة الراقصة.
أنَّت أولغا ايفانوفنا " يا الهي الرحيم ، أحقا ليس هنالك شيء يمكن القيام به؟ نيكولاي أنت طبيب وتعرف ماذا تفعل يجب عليك أن تفهم إنني لا أستطيع تحمل فقدانه ولا أستطيع البقاء على قيد الحياة".
تنهد الطبيب الذي لم يكن يعرف كيف يتكلم مع النساء الباكيات و سار ببطء نحو غرفة الضيوف ثم تلت ذلك سلسلة من حالات الصمت الثقيلة تتخللها نوبات من البكاء والأسئلة التي لا تؤدي إلى شيء.
كانت الفرقة الموسيقية قد عزفت من قبل موسيقى رقصة الكوادریل وموسيقى رقصة البولكا ومن ثم عادت لعزف موسيقى رقصة الكوادریل مرة أخرى.
أطبق الظلام كليا في الغرفة المجاورة ، قامت الخادمة بإشعال المصباح وفي كل تلك الأثناء كان الطبيب ممسكا بقبعته بكلتي يديه وقد بدا عليه انه كان يحاول أن يقول شيئا. ذهبت أولغا إيفانوفنا لابنها عدة مرات وجلست بقربه لمدة نصف ساعة ثم رجعت إلى غرفة الضيوف مرة أخرى. كان الوقت يمر ببطء مصحوبا بالألم . وبدت تلك الأمسية كما لو لن تكون هناك نهاية لها.
عند منتصف الليل وعندما توقفت الفرقة الموسيقية عن عزف الكوتليون تماما استعد الطبيب للذهاب وقال " سآتي غدا مرة أخرى " وضغط على يد الأم الباردة وقال "اذهبي إلى النوم" .
بعد أن ارتدى معطفه والتقط عصى المشي توقف في الممر وفكر للحظة وعاد إلى غرفة الضيوف.
"أولغا" سآتي غدا وكرر بصوت مرتعش هل" تسمعينني؟"
لم تجب أولغا وبدت وكأن الحزن سرق منها كل القدرة على الكلام ، جلس الطبيب بجانبها بمعطفه وعصاه التي كانت في يده وبدأ يخاطبها بكلام رقيق حنون نصف مهموس والذي لم يكن يتلائم كلياً مع وقاره وضخامة جسمه:
"أولغا من اجل حزنك الذي أشاركك فيه الآن ، حيث أن الكذب هو فعل إجرامي ،أتوسل إليك أن تخبريني بالحقيقة ، كنت دائما تقولين بأن الولد هو ابني، هل هذه هي الحقيقة؟"
كانت أولغا إيفانوفنا صامتة
" لقد كنتِ الحب الوحيد في حياتي " استمر الطبيب في الحديث "لا يمكنكِ تصور مدى عمق جرح شعوري بهذه الكذبة... أتوسل إليك أولغا، لمرة في حياتك قولي لي الحقيقة... في مثل هذه اللحظات لا يمكن للمرء أن يكذب، قولي لي بأن میشا ليس ابني، إني انتظر"
" إنه كذلك"
لم يكن ليستطيع أن يرى وجه أولغا إيفانوفنا ولكن الطبيب استطاع أن يسمع التردد في صوتها وتحسر:
"حتى في مثل هذه اللحظات تستطيعين أن تقبلي بنفسك على الكذب!"
قال هذا بنبرة اعتيادية " ليس هناك شيء مقدس عندك!"
"اسمعيني وافهمي لقد كنت حب حياتي الوحيد. نعم ، لقد كنتِ فاسقة ومبتذلة لكنني لم أحب أحداً في حياتي سواكِ. ذلك الحب التافه ، أنا الآن أتقدم في العمر لأصبح عجوزاً ومازال ذلك الحب هو الإشراقة الوحيدة في ذكرياتي ، لماذا تعتميه بالخداع؟ لمَ كل هذا ؟"
"أنا لا أفهمك"
"آه يا الهي! صرخ تسفيتكوف ،أنتِ تكذبين ، أنتِ تعرفين جيداً !" صرخ بصوت أعلى وسار نحو غرفة الضيوف وهو يلوح بعصاه بغضب "هل نسيتِ؟ أنا سوف أُذكَّركِ ! يشاركني في حقوق أُبوَّة هذا الولد كل من بيتروف وکوروفيسكي المحامي ، اللذان ما زالا يدفعان لك لقاء تعليم ابنيهما كما أفعل أنا. نعم أنا أعرف ذلك جيداً ، أنا أغفر لكِ كذبكِ في الماضي ، ماذا يهم ؟ ولكن الآن وبعد تقدمك في العمر وفي هذه اللحظة التي يحتضر بها الولد أشعر أنَّ كذبكِ يخنقني ! كم أنا آسف لأنه لا يمكنني الكلام كم أنا آسف !!"
فتح الطبيب أزرار معطفه وهو يمشي وقال:
"امرأة بائسة ، حتى هذه اللحظات ليس لها أدنى تأثير عليها وحتى الآن تكذب بحرية كما كانت تفعل قبل تسع سنوات! إنها تخاف أن تقول لي الحقيقة لأنها تتوقع أني لن أعطيها المال وتعتقد بأنها لو لم تكذب ما كنتُ لأحب الولد! أنتِ تكذبين هذا تصرف خسیس!"
وضرب الطبيب بعصاه الأرض وصرخ:
" إنكِ لمخلوقٌ كريه وفاسد! يجب أن أحتقرك ويجب أن أكون خجلاً من مشاعري ، نعم ! لقد علق كذبك في حنجرتي لتسع سنين وتحملته ولكن الآن أصبح أمراً لا يطاق "
جاء صوت بكاء من الزاوية المظلمة حيث كانت أولغا إيفانوفنا تجلس، عندها توقف الطبيب عن الكلام وتنحنح . بعد ذلك عم الصمت. قام الطبيب بغلق أزرار معطفه ببطء وبدأ يبحث عن قبعته التي أسقطها بينما كان يسير.
تمتم وهو ينحني نحو الأرض "لقد فقدت أعصابي " لقد غابت عن بصري حقيقة أنه لا يمكنكِ أن تنتبهي لي الآن ، الله يعلم ما الذي قلته... لا تعيري اهتماماً لما قلته يا أولغا."
وجد قبعته وتوجه نحو الزاوية المظلمة وقال بعطف وهو يهمس:
"لقد جرحتكِ"
"ولكن مرة أخرى أتوسل إليكِ أن تقولي لي الحقيقة ، يجب أن لا يكون الكذب موجود بيننا. والآن أنتِ تعرفين إنني أعلم بعلاقتكِ بكل من بيتروف وکوروفيسكي ومن السهل عليك أن تقولي لي الحقيقة ".
فكَّرتْ أولغا إيفانوفنا للحظة وقالت بتردد محسوس:
"نيكولاي ! أنا لستُ كاذبة ... میشا .. هو ابنك "
صاح الطبيب "يا إلهي! إذاً سأقول لكِ شيئاً إضافياً ، لقد احتفظتُ برسالتكِ إلى بيتروف التي قلتِ فيها أنه والد میشا"
" أولغا ! أنا أعرف الحقيقة ولكن أريد أن أسمعها منكِ أنتِ ، هل تسمعين؟"
لم تجب أولغا بل استمرت بالبكاء بعد أن انتظر الطبيب الإجابة هز كتفيه وخرج وقال" سوف آتي غداً "
طوال طريق العودة إلى البيت وبينما كان جالساً في عربته كان يهز كتفيه ويتمتم :
"ما يؤسفني أنني لا أعرف كيف أتكلم، أنا لا أمتلك موهبة الإقناع فمن الواضح أنها لا تفهمني مادامت تكذب! انه واضح ! كيف يمكنني أن أجعلها تلاحظ.. كيف !!!؟