دلالات نبذ الصراع في فكر الامام علي (ع) (الجزء الاول
محاضرة القيت في جامعة البصرة/ كلية التربية للبنات بذكرى شهادة امير المؤمنين (ع) يوم ٢٠٢١/٥/٤. للتدريسي: عباس قاسم المرياني
................................
ان دراسة فكر الإمام علي (ع) ونبذه للصراعات هنا ليس سردا لأحداث تاريخية، أو عرضاً لآراء فحسب، بل من اجل تبني هذه الأفكار والاستفادة منها في معالجة الواقع الحالي، فهذه الأفكار منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية المباركة تصلح لبناء انسان متكامل ومجتمع متماسك.
وان الإمام علي (ع) تناول موضوع الصراع كثيرًا في طروحاته وخطبه لمعالجة هذه المشكلة التي كانت مستشريه في عصره، وارتئينا ان نقسم وصاياه في مجال نبذ الصراع الى اربعة اقسام وهي:
1. وصاياه في درء الفتن والتحلي بالحلم
فمن وصية له يوصي على التوحّد والحذر من الفتنة قائلاً (ع): "فلا تكونوا أنصاب الفتن (أي مقصداً للفتنة) وأعلام البدع، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة وبنيت عليه أركان الطاعة، وأقدَموا على الله مظلومين ولا تقدَموا عليه ظالمين، واتقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان".
ويوصي ايضا في النهي عن الفتنة: "أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة ".
ومن وصاياه (ع) للمسلمين في أول توليه الخلافة يقول: "الفرائضَ الفرائض أدّوها إلى الله تؤدَّكم إلى الجنّة، إنّ الله حرم حراماً غير مجهول وأحلّ حلالاً غير مدخول لا نقض فيه وفضلّ حرمة المسلم على الحُرمِ كلّها وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلّا بالحقّ ولا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب".
وفي نفس السياق يوصي (ع) المسلمين قائلاً: "ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة واميطوا عن سنتها (أي تنحّوا عن طريقها – ولا ترموا انفسكم فيها)، وخلّوا قصد السبيل لها فقد لعمري يهلِكُ في لهبها المؤمن ويسلم فيها غير المسلم".
وفي وصية اخرى يقول فيها: "وخذوا مهل الأيام، وحوّطوا قواصي الإسلام ألا ترون إلى بلادكم تعزى وإلى صفاتكم ترمى".
كما أكد (ع) على صفة الحِلم فيما يتعرّض له الإنسان من ظروف قاهرة التي قد تدفعه الى الخروج عن العقل الذي كرمه الله به ليميز مدارك الاشياء فيقول: "اكْظِمِ الْغَيْظَ، وتَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدَرَةِ، واحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، واصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ، تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ".
وفي موضع اخر يقول فيه (ع): "الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ" - والفدام لغة: رباط الفم وعدم التسرع في الغضب.
وله مقولته الشهيرة: «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ ولا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ». اللبون هنا ابن الناقة الذي يفطم فلا هو كبير حتى يركب او يحمل عليه، ولا فيه حليب يستفاد منه.
من ذلك يبين لنا الإمام (ع) عدم الانجرار وراء الخلافات الحاصلة بين الأطراف المتصارعة، ويحذرنا منها لان فيها خسران لرضا الله سبحانه وتعالى ولرضا النفس.
ومن كلماته ايضاً يقول: «إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً» والقحم هنا يعني: المهالك، ففي هذه العبارة يوجز (ع) مهالك الخصومة بثلاث كلمات، فالخصومة البسيطة قد تؤدي الى توسعها والوقوع في الصراعات والاقتتال الذي يودي الى المهالك والخسران لكلا الطرفين.
وفي مسألة ما تعرض (ع) من اغتصاب لحقه وما ناله من ظلم الذي كاد ان يودي الى صراع كبير قد ينهي الإسلام والأمة بأكملها، لكنه (ع) أثر على نفسه وترك حقه لأجل مصلحة كبرى وهي الإسلام، فيقول: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَ اللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي ولا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ولا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ".
وهنا على الانسان المدرك ان يتمعن بدقة هذا النص من كلام الامام (ع) سيجد أنه ادرك بالصراع سيهلك كل امر حتى وان كان هو صاحب الحق بذلك، لذلك وضع المصلحة العامّة – أي مصلحة الإسلام- نصب عينه، فلا يجب أن يكون الخلاف الذي يشتت ويذر كل شيء هو النهج الصحيح.
2. النهي عن السب والشتم
وفي كلامه (ع) بالنهي عن السب والشتم - وما اكثره في مجتمعاتنا الان- حتى اصبحت مع شديد الأسف ثقافة متداولة على السن الكبار والصغار وعلى كل المستويات والاصعدة، وأمست وسيلة للتسقيط بين الافراد والجماعات واداة للمحاربة فيما بينهم حتى تفشت بشكل كبير.
عن ذلك يقول (ع) لإصحابه: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ واهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه".
ويروى عنه (ع) ان في يوماً من الأيام سمع رجلا يشتم خادمه قنبر، وأراد قنبر ان يرد عليه فناداه الامام (ع) قائلاً: "مهلا يا قنبر دع شاتمك مهاناً تُرضي الرحمن وتُسخط الشيطان، وتًعاقب عدوك فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما ارضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا اسخط الشيطان بمثل الصم، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه".
من هذا يجب علينا ان يكون تعاملنا مع الاخرين منطلقاً من تعامل الامام (ع) ومنسجماً معه؛ لكي لا نكون أداة بيد الشيطان نقاد كيفما يشاء وبذلك ننال غضب الله سبحانه وسخطه.
بعض الاقتباسات من//
- كتاب نهج البلاغة
- موقع نهج البلاغة على شبكة الانترنت