عشر سنوات على الربيع العربي بين أسبابه المزيّفة المعلنة والأسباب الحقيقية غير المعلنة
الكاتب والصحفي سامر كامل فاضل \ سوريه
اتسمت السنوات الواقعة بين عام 2000 و 2010 بعنوان الحروب على الطاقة كما تقول وثيقة
الطّاقة الصادرة عن الكونغرس الأميركي آنذاك، وذلك نتيجةً للقرار الذي تم اتخاذه
ببدء تطبيق اتفاقية كيوتو الموقّعة في اليابان عام 1997 والتي تنصُّ على خفض
الانبعاثات السّامة الناتجة عن المصانع في دول الغرب الصناعيّة، ليَبرُزَ البديلُ
عن ذلك وهو الغاز الأرخص والأقلَّ كلفةً والأقلَّ تأثيراً في حرارة الكرة الأرضية
وتخفيفاً للانبعاثات السّامة، والذي تتصدّر أرقامهُ الاحتياطيّة الأولى في العالم
روسيا ثم إيران وقطر وتليها بمعدّلاتٍ أقلَّ كلٌّ من كازاخستان و تركمنستان و
الولايات المتحدة الأمريكية فالسعودية والإمارات ونيجيريا.
عملت روسيا المُنتِج الأول للغاز في العالم على تزويد القارّة الأوروبية
بالغاز عبر خط السيل الجنوبي الذي انطلق عام 2007 لينقلَ الغاز الروسي إلى جنوب
أوروبا و وسطها عبر البحر الأسود وبلغاريا، وخط السيل الشمالي الذي انطلق عام 2011
المتجه إلى أوروبا عبر بحر البلطيق نحو ألمانيا مباشرةً، ليبرُزَ هنا مصطلح
الاستخدام السياسي للغاز من قبل أمريكا متهماً روسيا باستخدامه كسلاحٍ للضغط على
الدول الأوروبية، فسارعت الولايات المتحدة الأمريكية لقطع الطريق على الغاز الروسي
إلى أوروبا بالإعلان عن خط نابوكو للغاز
لكسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز الأوروبية، وينطلق خط نابوكو من آسيا
الوسطى في كازاخستان و أوزبكستان و تركمانستان ليمتدَّ غرباً في قاع بحر قزوين حتى
أذربيجان ثم جورجيا مروراً بتركيا وبلغاريا إلى أوروبا بعيداً عن الأراضي الروسية.
وكان قرار المفوضيّة الأوروبية بتبنّي مشروع خط غاز نابوكو، الذي أحدثَ
انقساماً واضحاً بين الدول الأوروبية بين مؤيدٍ لهذا المشروع وبين معارضٍ له مثل
إيطاليا الدّاعمة لخط السيل الجنوبي الروسي، وألمانيا التي تبنّت خطّ السيل
الشمالي لتأمين احتياجاتها من الغاز الروسي.
إلا أنَّ خط نابوكو لم يقتصر فقط على إمداد الغاز لأوروبا، بل كان له هدفاً
آخرَ، وهو إيصال الغاز عبر تركيا وسوريا مروراً بجنوب لبنان إلى حيفا، وقد أعلن
وزير الطاقة في الكيان الصهيوني عن اتفاقية مع تركيا التي كانت شريكاً حقيقياً في
هذا الخط و كان هذا الاتفاق قبل حرب تموز عام 2006 بفترةٍ وجيزةٍ، وهو ما يفسِّر
هذه الحرب التي كان مطلوباً فيها إزاحة حزب الله من جنوب لبنان خدمةً لهذا
المشروع، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً.
و على مقلبٍ آخر تم التخطيط لمد خط غاز آخر من قطر عبر السعودية فالبحر
الأحمر إلى عسقلان ومن ثم إلى حيفا التي خُطِّطَ لها أن تكونَ سوقَ الغاز الحرّ
على البحر المتوسط، ثم يأخذ هذا الخط فرعاً آخر له من العقبة عبر الأردن وسوريا ثم
تركيا متجهاً إلى أوروبا.
أما روسيا فقد عملت جاهدةً على مشروع خط غاز من روسيا إلى تركيا عبر سوريا
إلى العقبة فالبحر الأحمر لتأمين الصين بحريَّاً بالغاز إذا فشلت تأمينها بريَّاً.
وأعلنت إيران عن خط غاز بطول 3200 كم من إيران إلى العراق وسوريا لتغذية
أوروبا بالغاز عبر البحر المتوسط.
لنجِدَ بذلك أنَّ سوريا أصبحت العقدة الأهم لهذه الأنابيب المتصارعة عبر
المحاور الدولية وعقدة اقتصاد العالم المقبل.
من جهةٍ أخرى من القارة الإفريقية، جرى توقيع اتفاقٍ عام 2009 بين شركة غاز
بروم الروسية ونيجيريا لبناء مصافي لتكرير الغاز في نيجيريا ومد خط غاز عبر ليبيا
وإيطاليا إلى أوروبا في عهد برلسكوني، وليس من قبيلِ الصُّدفةِ وقتها أن يجري عزل الرئيس برلسكوني
الذي كان أعطى موافقته على المشروع والذي كان على علاقةٍ وطيدةٍ بالرئيس الليبي
معمّر القذّافي، كما أنَّه ليس من قبيل الصُّدفةِ ظهور جماعة بوكو حرام الإسلامية
المتطرِّفة في نيجيريا الشمالية آنذاك، لتنفِّذَ أولى عملياتها الإرهابية بنفس
فترة توقيع اتفاق شركة غاز بروم الروسية مع نيجريا على خط الغاز المذكور، ليُصبحَ
هذا المشروع أمراً مستحيلاً مع وجود هذه المجموعة الإرهابية المتطرّفة في نيجيريا،
وقد ترتّب على ذلك أيضاً إسقاط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس وإسقاط
الرئيس الليبي معمّر القذافي.
وبالتالي من يُجري تقاطعاً لخطوط
أنابيب الغاز هذه والحرب الطاحنة بين الدول الكبرى للسيطرة على أهم شرايين وأوردة
الاقتصاد العالمي للسنوات و العقود القادمة، يدركُ أنَّ شرارة الربيع العربي لم
تكن في عود الثقاب الذي أشعلهُ البائع الجوّال محمد بوعزيزي في نفسه بتونس
احتجاجاً على وضعٍ معيشيٍّ صعب، بل كانت لحظةَ اختيار الغرب لهذا الحدث ليبدأَ
مخطّطهُ في ما سُمِّيَ بالربيع العربي، منطلقاً من الجدول الأمريكي في تصنيف الدول
على أنها ديكتاتورية وقمعيّة ولا تحترم حقوق الإنسان، تصنيفاً يتماهى مع مدى توافق
هذه الدول مع المشروع الأمريكي، ليُصبِحَ نفس النظام المتهم بالديكتاتورية ونفس
الأشخاص القائمين عليه في أعلى سُلّم الديموقراطيات والحريّات واحترام حقوق
الإنسان عندما يغيٍّرُ هذا النظام سلوكه بما يحقق المصالح الأمريكية ويسيرُ
بأجندتها، وليس خافياً علينا مثالُ الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي كان
مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية وتم ادراج بلاده السودان على لائحة الدول
الرّاعية للإرهاب، ليتغيّر هذا الواقع إلى إبطال مفعول المحكمة الجنائية الدولية
ضدَّ البشير و إزالة اسم السودان من قائمة
الدول الرّاعية للإرهاب عندما رضخ البشير إلى تقسيم السودان إلى قسمين وأصبح 70 %
من النفط السوداني بيد السودان الجنوبي المنفصل والذي افتتح الكيان الصهيوني اول
سفارةٍ فيه.
لم تكن فكرة الربيع العربي بتغيير أنظمتها بحجّة تغيير واقع معيشي أو تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق
الإنسان فيها إلا غايةً للوصول إلى نقطة الفصل الرئيسي وهي سوريا التي اعتُبِرتْ
عقدة الصراع الأساسي في حرب خطوط أنابيب الغاز التي ذكرناها.
ومن هنا كان التقارب التركي القطري مع سوريا قبل بدء الربيع العربي أي قبل
عام 2011 والزيارات التي قام بها كل من أردوغان وأمير قطر حمد آل ثاني إلى سوريا
لإقناع القيادة فيها بمشروع أنبوب الغاز القطري عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا،
والتي وجدت فيه تركيا مع خط نابوكو المار فيها فرصتها لتتحوَّلَ إلى عقدة خطوط أنابيب
الغاز إلى أوروبا وتمارس الضغط عليها في مفاوضاتها للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي،
لكنَّ القيادة السورية رفضت ذلك، وهذا ما يفسّر الدّور التركي المُستميت في أحداث
الربيع العربي، وخصوصاً في إسقاط الدولة السورية وما فعله من إدخال آلاف المسلّحين
الإرهابيين من مختلف الجنسيات عبر أراضيها إلى سوريا.
و اجتمعت كل دول أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج المؤيدة
لمشروع إسقاط الدولة السورية بعد أن نجحوا في تونس وليبيا ومصر بإسقاط أنظمتها
وبدؤوا بتنفيذ السيناريوهات التي رسموها لإسقاط سوريا وفشلوا.
ومن يقوم بجردة حساب للواقع التي كانت تعيشه هذه الدول وشعوبها، يرى مدى
التراجع الكبير الذي لحق بها اقتصادياً وأمنيّاً بعد الربيع العربي وكيف تم
إغراقها بالفوضى الخلاّقة التي بشّرت بها كوندوليزا رايز مستشارة الأمن القومي
الأمريكية في طرحها لمشروع الشرق الأوسط الجديد، لتدخلَ هذه الدول في حالةٍ من عدم
الاستقرار والفوضى وانفلات السلاح بين العصابات المسلّحة كما هو الحال في ليبيا.
وليس خافياً على أحد الدور الكبير الذي قامت به محطة الجزيرة القطرية و
أخواتها والتي استمالت عقول الشعوب العربية لمدّة عشرِ سنواتٍ قبلَ الربيع العربي
بالضّخ الإعلاميٍّ المؤيِّد للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني حتى اكتسبت
مصداقيةً كبيرةً عند كل مواطنٍ عربيٍ و
الذي أصبحَ يتلقَّف أيَّ خبرٍ منها حتى لو كان عن بلدهِ قبل محطّتهِ المحليّة
إيماناً منه بمصداقيّة الجزيرة و دورها العروبي، إلى أن جاءت لحظة البدء بالمخطط
المنشود ليبدأَ دورها التخريبيّ في الربيع العربي، والذي سخّرتْ لهُ مليارات
الدولارات خدمةً للمشروع الأمريكي والغربي في إسقاط كل الأنظمة التي تقف في المقلب
الآخر من الصراع بين الدول الكبرى.
و يمكننا القول أنَّ الربيع العربي نجحَ نجاحاً باهراً في إفقار شعوب هذه
البلدان وتدهورها اقتصاديّاً وإذكاء روح الفتنة والاقتتال بين أبنائها وانتشار
السلاح والفوضى فيها، لكن على المستوى الاستراتيجي فإنَّ الربيع العربي فشل فشلاً
ذريعاً في تحقيق ما خطّطوا له من حروبٍ هدفها المعلن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق
الإنسان، بينما غرف البينتاغون وال CIA
و حلفاؤهم كانت تدير مخطّطات كبيرة لهذا الربيع العربي بغية الانتصار في
الحرب الاقتصادية الحقيقية في أنابيب الغاز والطاقة، ولم يكن محور المقاومة بعيداً
عن الفهم الاستراتيجي لهذه الحقيقة، فرأيناهُ في الميدان يتصدّى لهذا المشروع،
وبالتأكيد سنراهُ في كلِّ ميدانٍ تعبثُ فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها.