الصداقة بين الشعوب هي الأساس الجوهري للتواصل الثقافي والحضاري......... العلاقات العربية – الصينية نموذج يُحتذى
صحيفة الشعب
اليومية الصينية
الكاتب : عباس جواد كديمي
أستاذ بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية في
بكين
العرب والصينيون، ومعهم الكثير من شعوب
الأرض، يلتقون بالعديد من الصفات والتطلعات المشتركة على مرّ تاريخ العلاقات
التقليدية الودية بينهم، وكلا الجانبين من أصحاب الحضارة العريقة، وقدما إسهامات
بارزة في تطور البشرية. إن أصحاب التاريخ والحضارات العريقة يلتقون بالعديد من
التقاليد والتطلعات والصفات الأخلاقية المميزة، ونخص منها هنا صفة إنسانية حميدة
هي الرغبة الجادة في التعلم من خلال الحوار البنّاء المتكافئ. إنها صفة حميدة تحظى
بنظرة إيجابية ودعوة من كافة الأمم وتقاليدها ومعتقداتها، وتكاد كافة الأديان
والمعتقدات والأفكار، تجمع على أهميتها وضرورة التحلي بها في حياة البشر. معظم أمم
الأرض قد اكتسبت هذه الصفة من موروثها الحضاري وتاريخها وتقاليدها، وطوّرتها ضمن
حدود اجتماعية. الصينيون والعرب مهتمون جدا بالعلاقات التقليدية الودية التاريخية،
ويعتزون بها، والعلاقات بين الجانبين تشهد نموا وتطورا كبيرا في كافة المجالات، لا
سيما المجالات الثقافية والحضارية والتعلم المتبادل، وقد تجلى ذلك مؤخرا في مشاركة
العديد من المهتمين باللغة الصينية وآدابها وثقافاتها من العرب، إلى جانب عشرات
الخبراء والعلماء والباحثين، من مختلف أنحاء العالم، في لقاءات حوار هدفها تعزيز
التواصل والتقارب بين حضارات العالم.
حوارات دولية مثمرة
خلال الفترة من الـ28 من يونيو إلى الـ4 من
يوليو 2023، عُقدت في مدينتي بكين وتشنغداو بالصين، فعاليات الدورة الثالثة للحوار
حول التبادلات بين الحضارات والتعلم المتبادل، والدورة الأولى للمؤتمر العالمي
للعلماء والخبراء المهتمين بالدراسات المتعلقة بالثقافة واللغة والآداب الصينية
(ساينولوجي). حضر المؤتمر عشرات الخبراء والباحثين والمهتمين بالدراسات الصينية،
من الصين ومن مختلف أنحاء العالم، حيث تبادلوا وجهات النظر والتجارب حول المزيد من
تعزيز الترابط بين شعوب الأرض عبر اللغات والآداب والثقافات والحضارات.
ولأهمية هذه الفعاليات، بعث الرئيس الصيني
شي جين بينغ، رسالة تهنئة لدورة الحوار ومؤتمر الساينولوجي لهذا العام، وقال في
رسالته إنه على مدار التاريخ الطويل للبشرية، أقامت دول العالم حضارات متنوعة ذات
خصائص ورموز خاصة بها، مؤكدا أن التبادلات المتكافئة والتعلم المتبادل بين مختلف
الحضارات، ستوفر الإرشاد الروحي القوي للبشرية لمعالجة القضايا التي تواجه العصر،
ودفع تحقيق التنمية المشتركة.
وقال أيضا إن الصين مستعدة للعمل مع جميع
الأطراف للدفاع عن القيم العالمية للسلام والتنمية والمساواة والعدالة
والديمقراطية والحرية، وتنفيذ مبادرة الحضارة العالمية، مضيفا أن التبادلات
الثقافية ستسهم في كسر الحواجز، وكبح تأثير أية صدامات، وسيسهم التعلم المتبادل
والتعايش في مساعدة حضارات البشر في إحراز تقدم مشترك.
وفي رسالته، دعا شي علماء وخبراء
الساينولوجي، المُهتمّين بهذه الدراسات بجميع أنحاء العالم، للعمل كجسر يربط بين
الصين والحضارات الأخرى، وإلى بذل المزيد من الجهود لتعزيز التفاهم والصداقة
والتعاون بين الصين والعالم.
ممّا لا شك فيه أن مثل هذه اللقاءات تسهم
في جمع نخبة رائعة من الباحثين في مجالات ثقافات وحضارات ولغات العالم، وهم يتقنون
اللغات ولديهم فهم عميق لثقافات بلدانهم والثقافة الصينية، ويسهمون بلعب دور خاص
في التواصل الحضاري بين الصين وبلدانهم وبلدان العالم الأخرى، عبر نشر المعلومة
البناءة والقصص والصور الحقيقية عن الصين المعاصرة.
إن هذه اللقاءات والمشاركين فيها، يسهمون
بتوفير الأرضية للمزيد من التعارف بين الصينيين وشعوب العالم الأخرى، ويمثلون حلقة
وصل بين مختلف اللغات، ويسهمون بنشر الثقافات، وخاصة الثقافة الصينية. إنهم يعملون
على إيضاح ما هو غير مفهوم، ويعملون على إزالة أي سوء فهم، بما يسهّل على الآخرين
فهم واستيعاب الثقافة الصينية، بدون أي تحيّز مُسبق على أساس أيديولوجي.
هذه الفعاليات واللقاءات بين باحثين وخبراء
لغات وثقافات وأعمال ترجمة وطباعة ونشر، تعزز التفاعلات المعمقة المثمرة بين مختلف
الحضارات بدون أية حواجز لغوية.
إن أمم العالم غنية بحضاراتها، والأمتان
العربية والصينية أمتان حضاريتان، ورغم العلاقات الودية الطيبة بين الأمتين، ولكن
لا تزال هناك حاجة لمزيد من التواصل لتحقيق فهم أعمق وأفضل بين الأمتين، من خلال
الترجمة البينية واللقاءات الشعبية بمختلف أنواعها، وإيصال المعارف الأدبية
والثقافية والحضارية عبر النشر الأدبي والثقافي والإذاعة والتلفزيون والسينما
ووسائل التواصل الاجتماعي الرقمية المتطورة حاليا. الأمتان العربية والصينية
تشتركان بالكثير من الصفات، فهما أمتان محبتان للسلام والتواصل والتعلم المتبادل
والرغبة في التطور ومواكبة العصر، وهما أمتان ناميتان تطمحان لمزيد من التقدم الذي
يخدم شعوبهما، وخاصة أجيال الشباب، باعتبارهم ورثة الماضي العريق وحملة لواء
المستقبل.
هناك اهتمام واضح بين الأمتين العربية
والصينية، على كافة الأصعدة، بتعزيز التفاهم والتقارب بينهما، وحضور العديد من
الأساتذة والباحثين العرب لهذا المؤتمر وفعالياته، يعكس هذه الأهمية المتزايدة.
ومعاهد كونفوشيوس الصينية المنتشرة في معظم العواصم والمدن العربية، هي دليل واضح
على هذا الاهتمام، حيث تسهم بتعليم اللغة الصينية بين العرب، ونشر الثقافة الصينية
ومفاهيمها بين الناس. وفي الجامعات المنتشرة في الجانبين العربي والصيني، هناك
الآلاف من الشباب العرب والصينيين، يدرسون اللغتين العربية والصينية، وثقافات
الجانبين، بحيث يشكلون مشروعات طموحة لمزيد من التعاون المستقبلي بين الجانبين.
وفي وقت يمر فيه العالم بتغيرات عميقة غير
مسبوقة، لا بدّ من التأكيد على معرفة الآخر عبر لغته وثقافته وحضارته وتراثه
بمختلف أنواعه، وهذا لا يسهم بتعزيز التقارب والتفاهم فحسب، بل يمنح الفرصة لتجربة
حياة وفهم مجتمع الآخر عن كثب وبصورة مباشرة. في المفهوم الإسلامي والعربي، هناك
تأكيد واضح على أن البشر قد خُلقوا شعوبا وقبائل ليتقاربوا ويتعارفوا، ويتحلوا
بالأخلاق الحسنة الهادفة لتحقيق أفضل وضع ممكن للتعايش السلمي التفاعلي المثمر بين
البشر.
هذه المؤتمرات واللقاءات مهمة جدا لأنها
قناة حيوية لفهم بعضنا البعض، ولفهم ومعرفة الصين الناهضة بقوة، الصين التي تمدّ
يديها للتعاون مع كل من يرغب بالتعاون على أسس متكافئة ذات منفعة مشتركة. ولا بدّ
من فهم حقيقة أن الصين الناهضة حاليا بقوة، تسعى بحرص على التقارب مع شعوب العالم
الأخرى، وأبرز ما تطمح إليه هو عدم السماح بتكرار تجارب الماضي البغيض الذي عانت
الأمة الصينية خلاله من مهانة الضعف والتشرذم، وويلات الحروب والاستعمار والسلب
والنهب والجوع والحرمان والذلّ وخطر الهلاك. الأمة الصينية الناهضة حاليا مستعدة
للتعاون، وتؤكد من خلال مبادرات كثيرة، مثل مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة
التنمية العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية، ومبادرة الأمن المشترك، وفكر شي جين
بينغ حول بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، وغيرها، على أنها لم ولن ولا تسعى
للهيمنة على أحد، ولا التنافس اللا مشروع مع أحد، ولا أن تكون تنميتها ونهوضها على
حساب أحد، ولا تتبادل إلقاء اللوم على أحد، وتؤمن بأن عالمنا هو البيت المشترك
للجميع، وبإمكان هذا البيت أن يحتضن الجميع، إذا توفرت النوايا المخلصة.
الحث على صيانة السلام مقابل نهج الهيمنة
والعدوان المستمر
الأمتان العربية والصينية أمّتان مسالمتان.
ويمكن للمتابع أن يرى بدقة ووضوح أن تاريخ كلّ من هاتين الأمتين، الممتد كل على
حدة لآلاف السنين، قد أسهم كثيرا للحضارة البشرية، والإنجازات الحضارية لهاتين
الأمتين مشهودة. تاريخ الأمة العربية شاهد على سلميتها وتطلعاتها وإسهاماتها
للحضارة الإنسانية. وعلى ضوء المزاعم المُثارة ضد الصين مؤخرا، يمكن الإسهاب ولو
قليلا في جانبها. فإذا راجعنا تاريخ الصين خلال هذه الآلاف من السنين، فلن نجد أي
عدوان شنته الصين على أحد. ولكن لو نظرنا إلى تاريخ من يشككون بتنمية الصين
ونهوضها، لوجدنا شتى أشكال وصنوف العدوان على الأمم والدول الأخرى. حاليا، القوتان
الرئيسيتان بالعالم هما الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصاد وثاني أكبر اقتصاد
بالعالم، وإذا نظرنا لتاريخ البلدين لوجدنا أن الولايات المتحدة، تقوم، شهريًا،
إما بتدخل أو عدوان أو تأجيج نار حرب، أو إثارة مشكلة، أو بثّ فرقة أو تشكيك أو
ضرب وحدة بلد أو أمة، أو دفع انقلاب هنا أو هناك، أو تلاعب بالعملات وتهديد
للاقتصاد العالمي، أو استغلال مزايا ضد آخرين لا يعملون على هواها. ولدينا أمثلة
لا تعد ولا تحصى على ذلك، بدءا من تشيلي ونيكاراغوا وإيران وكوبا، ثم فيتنام
وكمبوديا، وصولا إلى فنزويلا، ثم أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا، ثم
أوكرانيا، والقائمة تطول. ويمكن النظر والمقارنة مع تاريخ الصين رجوعا إلى 2000
سنة على الأقل، والتأكد من أن الأمة الصينية هي التي عانت كثيرا، ولا تريد
المعاناة للآخرين.
رغم أن مؤتمرات ولقاءات الباحثين الصينيين
وزملائهم من أنحاء العالم في مجال اللغات والثقافات والآداب، هي أكاديمية الطابع،
ولكنها مهمة جدا لفهم الصين والشعب الصيني، والتنمية الحالية في هذا البلد. فهم
المجتمع الصيني يمكن تحقيقه من خلال قراءة قطعة أدبية، أو متابعات ثقافية، أو
برنامج إذاعي أو تلفزيوني، بما يسهم في التعرف على مجتمع الصين المعاصرة، وما الذي
يُشغل بال الصينيين حاليا. إنهم، مثل كل شعوب الأرض، مشغولون بتطلعات مماثلة لكل
أبّ وأم، وكل شاب وشابة، وكل طالب علم، ويطمحون لتحقيق مجتمع متحضر خالٍ من الفقر
والمعاناة، ويتمتع بقدر أكبر من المساواة، ويتطلعون لحكومتهم لتحقيق فرص تعليم
متاحة للجميع بنوعية جيدة، ونظام صحي يرعى الجميع، وسكن ملائم، ومجتمع مستقر وآمن،
وعيش كريم يتطلع إليه كل إنسان. الصين مشغولة جدا بدفع تنميتها وتحسين معيشة أكثر
من مليار و400 مليون نسمة، وهذه مهمة صعبة جدا تجعل أي متابع عقلاني يتساءل عن كيف
يمكن أن تكون الصين تهديدا للآخرين!.
الصين تطورت كثيرا، والعالم يعترف
بإنجازاتها التنموية غير المسبوقة، ومعجزتيها التوأم المتمثلتين بالتنمية
والاستقرار، ولكنها لا تزال بلدا ناميًا، وأمامها الكثير للقيام به. لذلك، ينبغي
عدم تصديق من يثير مزاعم "التهديد الصيني". إنها مزاعم لا أساس لها،
قائمة على أساس التحيز الأيديولوجي. هذه المزاعم مدفوعة بعامل أساسي يتجسد في
حَسَدٍ وغيرةٍ مما حققته الصين من إنجازات، ومشاعر غير مبررة بأن هيمنة الدول
الاستعمارية ستضعف مع صعود قوة كالصين. ومرة أخرى نقول، إن عالمنا، بيتنا المشترك،
يكفي للجميع، إذا توفرت النوايا الطيبة، والاستعداد للتعاون المزدوج المنفعة،
والابتعاد عن الأفكار المسبقة المتركزة على أن الفائز يأخذ كل شيء. هذه عقليات لم
تعد مقبولة في عالم اليوم المتجه لتعدد الأقطاب.
ومما لا شك فيه أن مؤتمرات ولقاءات
الباحثين والخبراء المهتمين بالدراسات الصينية (ساينولوجي)، وبالسبل الكفيلة
بتعزيز التواصل والتفاهم بين مختلف الحضارات، ستسهم في توفير زخم قوي لمزيد من
عالم يسوده السلام والاستقرار والأمن الشامل والنمو المشترك.
مبادرة الحضارة العالمية تؤكد اهتمام
الرئيس شي باحترام الحضارات
ونحن نتحدث عن الدورة الثالثة للحوار حول
التبادلات بين الحضارات والتعلم المتبادل، والدورة الأولى للمؤتمر العالمي للعلماء
والخبراء والباحثين المهتمين بالدراسات المتعلقة بالثقافة واللغة والآداب الصينية
(ساينولوجي)، لا بد أن نتطرق لمبادرة صينية هامة تتعلق بالحضارة العالمية. ففي
الـ15 من مارس 2023، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ، الأمين العام للجنة المركزية
للحزب الشيوعي الصيني، كلمة هامة في مؤتمر حوار رفيع المستوى للحزب الشيوعي الصيني
مع الأحزاب السياسية العالمية، اقترح فيه، لأول مرة، مبادرة الحضارة العالمية. إنها
مبادرة عالمية أخرى ضمن الكثير من المبادرات الوارد ذكرها أعلاه، والتي اقترحتها
الصين للعالم على مدى سنوات متتالية. إنها مبادرات تظهر تصميم والتزام الصين
بدبلوماسية الدولة الكبيرة المسئولة، وهي دبلوماسية ذات خصائص صينية في العصر
الجديد، لتعزيز عملية التحديث وبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية.
مبادرة الحضارة العالمية تتحلى بأهمية
بالغة، بفضل دعوتها المشتركة للالتزام بخطوات جادة للاحترام المشترك للحضارات
بمختلف أنواعها، وتؤكد على أن بلدان العالم بحاجة للتمسك بمبادئ المساواة والتعلم
المتبادل والحوار والشمولية بين الحضارات، والسماح للتبادلات الثقافية بكسر
الحواجز اللغوية التي قد تسبب سوء الفهم والتباعد، والعمل على تعزيز التعلم
المتبادل الذي يكبح احتمالات التصادم، وتعزيز التعايش السلمي الودي المثمر، بعيدا
عن أية مشاعر فيها تحيّز أو استعلاء. والمبادرة تدعو أيضا إلى العمل المشترك
لصيانة القيم المشتركة للإنسانية. فالسلام والتنمية والمساواة والعدالة
والديمقراطية والحرية هي تطلعات مشتركة لجميع البشر. والمبادرة تدعو كذلك إلى
ضرورة التحلي بعقلية متفتحة في قبول الآخر من مختلف الحضارات وقيمها، والابتعاد
عمّا يوحي بفرض قيم أو نماذج على آخرين، بما قد يسهم بتأجيج مواجهات أيديولوجية.
هذه المبادرة تولي أهمية كبيرة للدعوة المشتركة لإبراز أهمية الموروث الحضاري،
والعمل على متابعة توجهات العصر من خلال الابتكار الحضاري. والمبادرة تضع أهمية
على ضرورة أن تعمل بلدان العالم للاستفادة المتكاملة من الموروث التاريخي والثقافي
في العصر الراهن، والسعي لدفع التحول الإبداعي والتطوير المُبتكر لثقافاتها
التقليدية الجميلة. والمبادرة لا تغفل الدعوة المشتركة لتعزيز التبادلات والتعاون
بشكل حيوية قوي مثمر بين الشعوب. وتشير لضرورة العمل الجاد لاستكشاف سبل بناء شبكة
عالمية للحوار والتعاون بين الحضارات، وإثراء مضامين الحوار والتبادلات، وتوسيع
إمكانيات التعاون، بما يسهم في تعزيز التفاهم المتبادل والصداقة بين شعوب جميع
البلدان، ودفع تقدم الحضارات الإنسانية بشكل مشترك.
مبادرة الحضارة العالمية هامة جدا في وقت
يشهد فيه عالمنا اليوم تغيرات متسارعة غير مسبوقة على مدى قرن من الزمان، وتحديات
وأزمات متشابكة، يأتي في صميمها تغيّرات حضارية وأنظمة تنطلق فيها خطابات متنوعة.
إنها تغيّرات شاملة، لا يوجد أحد في منأى عن تأثيرها. لذلك، لا بد من إيلاء
الاهتمام اللازم لبناء شبكة تواصل حضاري تسهم في تفادي أي تحيزات على أسس ثقافية
أو عرقية، وتسهم في تحقيق حوكمة عالمية عادلة، وإزالة أي عقبة محتملة تعيق تقدم
الحضارة الإنسانية.
مبادرة الحضارة العالمية، تعكس الرؤية
الصينية التقليدية المتمثلة بأن "كل الكائنات الحية تنمو في وئام دون الإضرار
ببعضها البعض؛ وكل الطرق تسير بشكل متوازٍ دون تداخل مع بعضها البعض". ورغم
الاختلافات العادية بين الحضارات من حيث التاريخ والخلفية الثقافية والظروف
الجغرافية، ولكن هناك حقيقة تتجسد بأنه لا أحد له ميزة تفوّق على الآخرين.
وفي ظل التعقيدات التي يشهدها عالمنا اليوم،
بدءا من مشاكل تعثر النمو وقلة فرص العمل، ومخاطر تغيرات المناخ على البيئة،
والأوبئة والأمراض، والكوارث الطبيعية، والنزاعات والمشاكل الجيوسياسية
والاضطرابات والهجرة واللجوء، وغياب الأمن والسلام والاستقرار والنمو في الكثير من
بقاع الأرض، يكون من الضروري جدا احترام تنوع الحضارات العالمية، والتعامل معها
على قدم المساواة، مع العمل على تعزيز الاحترام المتبادل والتبادلات بين الأمم،
ورفض استبعاد أو استبدال بعضها البعض.
إنها مبادرة تدعو جميع الأطراف للعمل يدا
بيد لإزالة الحواجز وكل ما يثير التعصّب والكراهية، والعمل المشترك لزرع بذور
السلام والأمن والازدهار المشتركين الشاملين والتقدم المثمر للجميع.
إن اللقاءات والحوارات المتكافئة يمكن أن
تسهم كثيرا بتعزيز الإلهام والاستفادة من بعضنا البعض، وخاصة من التراث الثقافي
والخبرات التاريخية، وهذا يتسهّل عبر معرفة لغة الآخر، والاطلاع على تراثه،
وتعريفه بتراثنا ولغتنا وتجاربنا وإسهاماتنا، بما يسهم في تعزيز القدرات على رعاية
بذور التقارب الودي لتنمو وتزدهر وتزيّن حديقة البشرية، وبناء قدرات مشتركة تعزز
السلام والأمن الاستقرار والنمو للجميع، ومعالجة التحديات والأزمات معًا.
مبادرة الحضارة العالمية هي إثراء للقيم
الحضارية المستمدة من رؤية مجتمع مصير مشترك للبشرية. إنها تمثل أحدث الإنجازات
للحضارات العالمية، وتبلور الحكمة الصينية وإسهاماتها للعالم. الصينيون يؤمنون
بأنه "ليس بإمكان زهرة واحدة أن تصنع ربيعا، ولكن مئات الأزهار الكاملة
الإزهار هي القادرة على جعل الحديقة تتحلى بربيع حقيقي".
من خلال هذه المؤتمرات واللقاءات
والمبادرات، الصينيون يؤكدون استعدادهم للعمل مع الآخرين لتسهيل تبادل الحضارات
بطرق منفتحة ومتناغمة، بما يساعد على بناء جسور الصداقة بين شعوب أمم الأرض،
وتعزيز تطور الحضارة الإنسانية والإسهام بالحلول والمعالجات، والعمل المشترك على
توطيد أسس السلام والاستقرار والازدهار والتنمية بالعالم أجمع.
تقاليد الحوار والاستماع لدى الصينيين
الصينيون متواضعون تقليديا، ويمكن القول إن
جميعهم متواضعون. وهم يسعون وراء الحوار ومعرفة تجارب الآخرين، وطرح ما لديهم من
أفكار وتجارب، كما حدث في هذا المؤتمر العالمي للمهتمين بدراسة الصينيات
(ساينولوجي). الصينيون، الذين تشرّبوا بصفة التواضع من أفكار كونفوشيوس وطاوية لاو
تسه، قد تشرّبوا بصفة أخرى لهذين الحكيمين وأفكارهما الفلسفية، وهي السعي للتعلم
والحوار المتبادل. فقد قال كونفوشيوس "إذا تعلم المرء من الآخرين دون أن
يفكر، فسيشعر بالحيرة. وإذا ظل يفكر دون أن يتعلم من خبرة الآخرين، سيكون في حيرة
أكبر". وهذا تأكيد واضح يتذكره الصينيون جيدا وهو الإصغاء لآراء الآخرين
واحترامها، ولكن يجب التفكير بها بما يخدم خصائص الواقع الصيني، وهو ما ورثه
الصينيون من توجيه كونفوشيوس الذي قال أيضا "الإنسان الفاضل هو من يتفق مع
الآخرين، دون أن يكون مجرد صدى لهم". والحكيم الطاوي لاو تسه، قال هو الآخر،
إنه "من الحكمة أن تعرف أن ثمة ما تجهله، ومن العيب أن تجهل وتظن أنك تعرف.
والحكيم بعيد عن العيب، وواعٍ ومدركٍ كيف يتنزه عن العيوب."
الحكيم كونفوشيوس قال أيضا "ما مشيت
مع اثنين إلا وكان أحدهما معلّما لي، استفيد من مزاياه، وأتنزه عن خطاياه".
وهذا دليل واضح على ضرورة التواصل والاستفادة من معارف الآخرين، وهو ما ورثه
الصينيون ودأبوا عليه.
هذه الأسطر حول التواضع كانت ضرورية قبل أن
أوضح الهدف من ذكرها هنا، وهو الإشارة إلى تقليد حميد دأب عليه الصينيون منذ قديم
الزمان إلى يومنا هذا، وهو التواضع واحترام الآخرين والاستماع للرأي الآخر، لأنهم
يؤمنون بأن التواصل مع الآخرين مفيد لا محالة.
واسمحوا لي أن أتحدث عن تجربة شخصية لي في
الصين. فمنذ أن بدأت العمل في الصين عام 1998، يحرص الصينيون، بدءا من المكتب الذي
أعمل فيه إلى مستويات أعلى، وبمناسبات مختلفة، على ترتيب لقاء مصغر أو موسع،
لتبادل الآراء والاستماع لكل ما هو مُستجَد من خبرة أو تجربة أو مقترح يسهم في دفع
أسلوب العمل للأمام وتحسينه. وفي كل عام، واستغلالا لمناسبات عامة هامة مثل العيد
الوطني أو عيد الربيع التقليدي (عيد رأس السنة القمرية بالصين) أو مناسبة هامة
أخرى في التقويم القمري أو العادي، تحرص جهات حكومية مسئولة عن الباحثين والخبراء
الأجانب العاملين في الصين بمختلف المجالات، على ترتيب لقاءين موسعين على الأقل
سنويا، يستمع الصينيون خلالها لآراء المختصين، بمجالات العمل المعنية. وهنا أسعى
للتركيز على صفة التواضع التي يتحلى بها معظم الصينيين، لا سيما المسئولين بمختلف
دوائرهم ومستوياتهم الوظيفية، وأبرزهم رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، والوزراء،
والأكاديميون والباحثون، وهم يحضرون اللقاءات ويصغون باهتمام لآراء الباحثين
والعلماء والخبراء الأجانب العاملين في الصين، أو الذين يزورونها. لقد حضرت العديد
من هذه اللقاءات، وساهمت برأي متواضع في مجال عملي في تحرير الأخبار وبالترجمة
والتنقيح باللغة العربية، ووجدت اهتماما حقيقيا بما أطرحه ويطرحه الزملاء الأجانب
الآخرون كلٌ حسب اختصاصه. خلال هذه اللقاءات يتم طرح الأفكار، ومعظمها واقعي
بنّاء، ويستمع المتحاورون لبعضهم البعض، وهم خليط جميل من مختلف الاختصاصات ومن
مختلف البلدان، وتتوفر فرصة ممتازة للاستماع للتجارب الناجحة والأفكار السديدة،
والاستفادة منها. مؤتمر الساينولوجي هذا العام، كان مثالا ممتازا لحرص الصينيين
على تحقيق الهدف الأسمى، وهو الاستماع والحوار بلا أية عوائق أو حواجز. وعندما
وجّهوا الدعوة لي للمشاركة بالمؤتمر، اعتذرت بسبب عائق اللغة، ولكنهم حرصوا على
توفير مترجم لي، حتى أتمكن من المشاركة والإسهام قدر الإمكان في المؤتمر. وفعلا،
كانت فرصة ثمينة تستحق الإشادة.
ومرة أخرى أقول إن الصفة الجديرة بالملاحظة
هي التواضع، رغم ما وصلته الصين من مكانة دولية بارزة في مختلف المجالات. ولكنها
ظلت "الدولة الكبيرة مثل البحر الواسع الذي يستقبل مئات الجداول، والدولة
الكبيرة التي عليها أن تكون مثل الحوض الأسفل للنهر، حيث تلتقي كل مياه الأرض،
والدولة الكبيرة التي تهدف لاحتضان الجميع ورعايتهم، والدولة الكبيرة التي عليها
أن تبدي التواضع أولا وقبل غيرها." إن ما وضعته بين قوسين هو من مبادئ
الطاوية، وهو ما تضعه الصين نصب عينيها وهي تسعى لتنمية البلاد وتطورها لتتلاءم مع
واقع القرن الجديد، حيث الفرص وحيث التحديات.
الصين تعتز بعلاقاتها الودية التاريخية مع
شعوب الأرض، ومنهم العرب، وعلاقاتها مع العرب تعود لآلاف السنين، وتتميز بأنها لم
تشبها شائبة. في العصر الحديث، شهدت هذه العلاقات التطور الذي تستحقه على كافة
الأصعدة، وأصبح لدينا منتدى التعاون الصيني – العربي، الذي تأسس في مطلع عام 2004،
وأضحى للصين ومعظم الدول العربية علاقات شراكة استراتيجية مع بعضها البعض، وأصدرت
الصين في 13 يناير من عام 2016، وثيقة رسمية تاريخية واضحة المعالم، وهي الأولى من
نوعها حول علاقاتها مع العرب، مؤكدة أن العالم العربي شريك مهم للصين التي تسعى
لإقامة علاقات دولية من نوع جديد تتمحور على التعاون والكسب المشترك، والتعامل مع
العلاقات الصينية - العربية من زاوية استراتيجية، وتلتزم بتوطيد وتعميق الصداقة
التقليدية بين الجانبين كسياسة خارجية طويلة الأمد.
كل هذا يؤكد لنا ضرورة تعزيز توجهنا نحو
الصين وتوطيد تعاوننا معها، لأنها معنا حتى عندما كانت فقيرة، ويمكن التأكد من ذلك
من خلال مراجعة دعمها للجزائر في نضالها التحرري، ودعمها لنضال مصر خلال العدوان
الثلاثي وحصار القوى الغربية لها، ودعمها المستمر للقضية العادلة للشعب الفلسطيني،
ومعارضتها لغزو العراق، ولأننا اليوم في عالم واحد، وفي قارب واحد، ولدينا تطلعات
وأهداف وآمال وأحلام مشتركة، وكلا الجانبين يسعى للتنمية والتطور واللحاق بركب
العصر.