معركة الروح... بقلم / الصحفي غالب خزعل
يسرع مرة وأخرى يخف الخطى , ثم يرجع إلى من حيث أنطلق , وثالثة يعظ أنامله , ثم يمشي مسرعا , يجلس يضرب بكفه على فخذه ثم يقوم ثم يجلس . ليس بمقدور أحد أن يسأله . يرجع ويحرك ذراعيه بعصبية يكاد يلتهم الأرض فيها ومن حوله . يرمق السماء بنظرات ثاقبة ثم يعود ليحفر الأرض بأصبعه , ويلتفت يمينا وشمالا يصرخ عاليا فتزداد مخاوف من حوله , يقلب كفيه وينظر أليهما كأنه يعد أرقاما . جميع من حوله عرف أن في نفسه شيء يخفيه أو قرار يريد أن يتخذه ولايستطيع أن يبوح به .
قال أحدهم إن معركة الروح واتخاذ القرار لهي من أصعب المعارك فهي مابين الخسارة والربح , أو حتى مابين الفناء أو البقاء .
قال أخر إن صاحبنا ليس له من حديثك من شيء عرفناه كيسا ووقورا .
ثالث قال ماذا لو أرجع بكم إلى عمق التاريخ أي قبل أربعمائة وألف من السنين الهجرية فهناك شخص كصاحبنا لكنه سرعان ما كفر عن ذنبه وسعد مع السعداء وخلد مع الخالدين .
رابعهم قال تحدث ياأخي عن هذا الرجل لعلنا نخفف عن صاحبنا .
قال نعم سأقص عليكم قصة الرجل الذي كلف بإيقاف زحف ثلة جاءت لنصرة المظلومين وقد منعهم من التقدم إلى المدينة وجعع بهم وبنسائهم وأطفالهم وحاصرهم بجيشه لم يترك لهم خيار العودة إلى ديارهم أو إلى إي بقعة من أرض الله الواسعة , فندم على مافعل معهم وأصبح يقلب كفيه نادما والحسرة تعصر قلبه لكنه لم يعرف الأمور تؤول إلى هذا المصير لان واجبه الذي يؤديه يقتصر على وقف زحف هذه الثلة ومنعهم من الدخول إلى الكوفة .
قالوا كأنك تتحدث عن ألطف . قال نعم هو كذلك وبالتحديد عن الحر الذي أتخذ قرار الخلود في الدنيا والسعادة في الآخرة فكان قبل هذا القرار شهد صراعا روحيا حادا غير لون وجه وأقشعر بدنه ورجفت أعضاءه حتى ظن صحابته إنه جبن أو خاف من القتل وفي الأخر ميز بين الحق والباطل واهتدى إلى طريق الجنه .
ثم قال ياأخوتي إن هذه الهداية لم تأت عن طريق الصدفة وإنما جاءت من فعل الإمام الحسين عليه السلام وخلقه العظيم الذي رباه عليه جده رسول الله محمد صل الله عليه وأله وسلم . فقد خرج الحر لملاقاة الإمام لكونه خارجي ومخالفا لتعاليم الدين وشريعة الإسلام هذه الصورة لدى الحر .
وحين التقى بالإمام وتحاور معه أحس ببرد الإيمان وكرم الخلق الطيب خاصة عندما قام الإمام بسقاية الحر وجيشه على الرغم من قلة الماء لدى أصحاب الإمام ولم يقتصر على الجيش إنما سقى دوابهم معهم فطال الحوار بينهم بعد ما ذاق الحر حلاوة كلمات الإيمان ولذة الحديث وحسن أداء الصلاة ومن هنا بدأ معركة الروح في نفس الحر وأي طريق يختار الجنة أو النار لكن قرارات جيش الطغاة لم تعرف بعد القتال آم التراجع عنه وقد بعث برسالة إلى الطاغي عبيدالله بن زياد ينقل فيها موقف الإمام الحسين عليه السلام الرافض للاستسلام والناصح الأمين لأمة جده وتعديل مساراها والوصول بها إلى شاطئ الأمن والأمان , وفي لحظات انتظار الرد جاءت الجيوش لتعلن الحرب على ثلة الحق فتصاعدت أعداد وانتشرت في كربلاء وأحاطت بنهر الفرات . فكان الليل طويلا على الحر وتلاوة كتاب الله تمخر عباب سمعه من أصحاب الإمام وأهل بيته ويشق أذنيه دوي القانتين الراكعين الساجدين في هذا الليل على الرغم من أصوات كؤوس الخمر واللهو والطرب عند جيش الطغاة . وما أن انبلج شعاع الشمس حتى خير الحر نفسه بين الخلود الأبدي وعيش نعيم الآخرة ,أو ذل العيش واللعن الدائم عليه إلى ابد الآبدين وما أن سألوه ما بك لم تعهدك جبانا ؟ !
فأجابهم أنا خيرت نفس بين الجنة والنار ولم أختر على الجنة الدنيا ومافيها وهمز دابته وأنطلق نحو الإمام الحسين عليه السلام يعتذر لما صدر منه في الليلة الماضية وبدأ القتال وصال الحر وجال حتى ترجل من صهوة الدنيا صاعدا إلى صهوة السماء وكل همه أن يشهد له الإمام بالوفاء في يوم الحشر مخاطبا أوفيت يا أبن رسول الله نعم فأنت الحر في الدنيا كما سمتك أمك وسعيد في الآخرة . نعم ما أصعبها من معركة بين الروح وبين الصواب , فالنار تريد حطبا أينا كان هذا الحطب أحضرا أو يابسا والجنة تختار ساكنيها اختيار العارف العالم لان ليس فيها تعب ولانصب ولأجوع ولا عري كما ذكرها الله عز وجل في محكم كتابه {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى }طه118فأراد الحر أن لايجوع ولايعرى وخلد مع الخالدين ...