تحت مقصلة الخرافة السياسية ..تُعدم الشعوب العربية ..
بقلم| ثائرة أكرم العكيدي (كاتبة وباحثة)
ماتزال دول وكيانات وأنظمة وحكومات تعيش على الخرافات ولا تتوانى في العمل على تأكيد صحتها، وتجد طبعا من يصدقها ويدعمها ويناضل في سبيلها، ومن يدوس على منجزات العقل البشري فقط ليبرر تناقضها مع العقل، وبدل أن ننظر إلى تلك الخرافات على أنها مجرد تراث إنساني نجد أنفسنا نعيد صياغتها لرسم ملامح الحاضر والمستقبل.. ونجيّر كل أسلحة العصر وشعارات الديمقراطية والتنوير للقتل في سبيل الخرافة فكم نحن خرافيون!!
ارتبطت الخرافات السياسية دائما بامتيازات السلطة والصراع على الحكم وطالما كانت حقّا حصريا للأباطرة والملوك والحكام فاصطنعوا منها العصمة وأوصلوا بها أنفسهم إلى مرتبة الألوهية، وما تزال آثارهم إلى اليوم تتحكم في جوانب مهمة من حياتنا المعاصرة.
وتشمل الخرافات السياسية الأفكار الخادعة والمنحطَة التي تروج لها المجموعات المتطرفة، أو الأحزاب الخاصة، والطبقات الحاكمة، والسياسيون الأنانيون الطامحون إلى السلطة لإرضاء نزعاتهم المتعالية. ويعملون على إحالة نواياهم التوسُعية إلى فعل مشهود على أرض الواقع من خلال تحريك المشاعر المقدسة في الظاهر للشعوب والأمم بحجة الدفاع عن السيادة والأرض أو بتبرير الفرضيات شبه العلمية من قبيل التفوق البيولوجي للشعوب.
إن الشوفينية أو المبالغة في تقديس الوطن يعد نوعاً من الخرافة الاجتماعية السياسية التي تستمد وجودها من التعصب القومي والوطني للأفراد.
وهنا نأتي الى أن تقديس الوطن وليس حب الوطن أمر مرفوض ومدان من الناحية العقلية والأخلاقية. وإذا اقترن بالتعصب والأنانية فلن يورث سوى النزاع والتخاصم بين الشعوب والأمم، واستحقار سائر الأقوام الأخرى لأننا لو نظرنا إلى مسألة التعلق بالأمة والوطن والقومية نظرا إلى أن جميع البشر هم خلق الله تعالى وتم تقسيمهم إلى قبائل وشعوب وأمم، ولهم ثقافات ولغات مختلفة فإننا بذلك لم نقل شيئاً خاطئاً ولكن لو أصبحت الوطنية المتطرِفة بديلاً عن الهوية الإنسانية ستظهر الغربة. وهذا الموضوع يعتبر في حد ذاته مصدر النزاعات. وليس المراد بالشوفينية أو الوطنية المتطرِفة إلا أن يرى الفرد شخصيته وهويته في القومية ويجعل الارتباط بالقوم والقبيلة والأمة وسيلة لمعرفة نفسه وكأن القومية هي التي تُقَوِم شخصيته وينظر إليها بالشكل الذي يرى نفسه فيها، ومن خلالها ويجعل سلوكه وتصرفاته متطابقة مع تلك الهوية الوهمية ويقيم علاقاته مع الآخرين ضمن هذا الإطار ويقيّم الناس أيضاً بهذا المعيار. وبالنتيجة سيصبح العالم الإنساني لدى هذا الشخص عبارة عن مجموعة من الأقوام والأمم ويعتقد أنه ليس هناك شيء أوسع وأشمل من القومية ليصبح أساساً للوحدة والعمل. إلا إن هذا الاعتقاد يبعد الناس عن جادة الصواب والحق دائماً، وينزع عنهم هويتهم الحقيقية، ويفرغهم منها. ولهذا السبب لا يمكن القضاء على العداء بين الأمم في إطار الوطنية المتطرفة أو الشوفينية، بل إنها تستلزم انفصال الناس وتشتُتهم عن بعضهم البعض.
وتعتبر خرافة القومية هي الحلقة الواصلة من خرافة السياسة وخرافة الدين وهي سرد ملهم لماضي الأمة غالباً ما يكون لهذه الأساطير رمزية روحية تهدف إلى تأكيد مجموعة من الخصال القومية. قد تتخذ الخرافة القومية صيغة الملحمة أو يتم دمجها في الدين المدني. هذه الخرافة عادة ما تبالغ في سرد الأحداث الواقعية وتتطور إلى ميثولوجيا أسطورية تحظى باحترام أفراد الأمة. في بعض الحالات قد تكون مختلقة بالكامل ولكنها تحوي معاني رمزية مهمة للأمة. يتضمن الفلكلور القومي لعديد من الأمم أسطورة أصل قد تنطوي على قصة حرب استقلال. وفي بعض الأمم، تتخذ الخرافات القومية طابعاً دينياً أو روحياً يعيد قصة تأسيس الدولة أو الأمة إلى إله أو أكثر وكائنات أخرى خارقة للطبيعة. حبكت الخرافات القومية من مثقفين قوميين بهدف التحشيد السياسي والذي غالباً ما يتخذ أشكالاً إثنية.
بعض الأماكن قد تكون الخرافة القومية ذات طابع روحي وتشير إلى قصص تأسيس الأمة على يد إله أو عدة آلهة أو قادة تفضلهم الآلهة أو كائنات أخرى خارقة للطبيعة.
تخدم الخرافات القومية العديد من الأغراض الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية. غالباً ما توجد الخرافات القومية فقط لغرض الدعاية التي ترعاها الدولة. في الديكتاتوريات الشمولية قد يُمنح القائد تاريخاً أسطورياً خارقاً للطبيعة من أجل جعله يبدو شبيهاً بالله وقوياً للغاية كعبادة الشخصية. ومع ذلك فإن الخرافات القومية موجودة في كل مجتمع في الأنظمة الليبرالية يمكن أن تخدم غرض إلهام الفضيلة المدنية والتضحية بالنفس أو تعزيز قوة الجماعات المهيمنة وإضفاء الشرعية على حكمها.
ويمكن اعتبار الشوفينية نوعاً من الطوطمية لأن الأفراد الذين يحبون مدينتهم أو بلدهم وأمتهم إلى درجة التعصب ويؤمنون بأفضلية قومهم وأمتهم وقبيلتهم على سائر الأقوام والأمم الأخرى بهذه الطريقة من الحب الأعمى ولا يعيرون أهمية للآخرين فإنهم يعبِرون بذلك عن ولائهم وتأييدهم بشكل متعمد أو عفوي لفكرة الروح الوطنية أو القبلية المشتركة والضمير الجمعي لمجتمعه أو شيئاً يشبه ما نشاهده في مجتمع طوطمي.
وتعتبر الشوفينية أو الوطنية المتطرفة من أهم العوامل المؤثرة التي لجأ الاستعمار الحديث إلى استخدامها في القرنين التاسع عشر والعشرين لمصالحه الاستعمارية. وتمكن من خلال إثارة المشاعر الوطنية والقومية للأمم من دفعهم إلى المطالبة بالاستقلال، ونجح في النهاية في تجزئة إمبراطورية كبيرة، كالإمبراطورية العثمانية، والقضاء عليها في عام 1924م.
وما زال شعار المشاعر الوطنية من أقوى الأسلحة المستخدمة في عرف السياسة الدولية وأقدسها لتحرر الشعوب والأمم المحرومة والمستعمرة من نير المستعمرين والقوى العظمى. إن ظهور العديد من الدول الجديدة على خارطة القارة السوداء في الخمسين سنة الأخيرة بشكل مذهل، والتي يبدو أنها نالت استقلالها بمساعدة البيض في أوروبا وأمريكا، إنما يكشف عن هذه الحقيقة. إلا أن النقطة الأهم هنا والدليل على أن الشوفينية عبارة عن فكرة وهمية وخرافية هو أن الاحترام المبالغ به الذي يبديه العالم للوطنية ناجم قبل كل شيء عن الأوضاع الخاصة للسياسة الدولية في الوقت الراهن وليس نابعاً من الأفكار الفلسفية والنظرة الواقعية تجاه الوطنية.
والشوفينية عبارة عن خرافة انبعثت من العصبيات الجاهلة تجاه القوم والقبيلة والأمة والبلد الخاص. ولهذا نجد أن الاستعمار الجديد مازال يستخدم هذه الفكرة الوهمية وبشكل كبير جداً لتحقيق مآربه. وقد تمكن من تقسيم أراضي شاسعة ومتحدة خاصة في وطننا العربي والإسلامي وجعل جميع الحناجر تصدح وتنادي بصوت واحد من خلف خطوط الجبهة، ومن قلب الجيش المهاجم، وتترنم بأنشودة الهوية الكويتية، والهوية اللبنانية، والعراقية والسورية وغيرها. ولم يكد يمضي وقت طويل حتى وجدنا العالم الإسلامي وقد تحول إلى عدة أقسام، وكل قسم منها أصبح لقمة سائغة في حلق الاستعمار الغربي.
إن الشوفينية أو نظرية القوم والأمة الأفضل هي حصيلة العجب والنظرة الضيقة والجهل. وينظر العقلاء والواقعيون من بني البشر وأينما كانوا على وجه الأرض وبالرغم من حبهم لوطنهم وأرضه ومائه ينظرون إلى جميع أفراد البشر بمنزلة الجسد الواحد وأن شعوب العالم يؤلِفون أجزاء هذا الجسد وأعضاءه.
أبرز مهام ووظائف الخرافة هو بث الخوف في نفوس الناس وإنهاكهم بالخرافات والأساطير حتى يسهل السيطرة عليهم وتوجيههم وفق أجندة وأهداف ومآرب تتنوع من اتجاهات حزبية حركية إلى مجرد حب السيطرة والتحكم.
ورغم أن مسألة الإيمان بالخرافة اتخذت مظاهر وصوراً متنوعة على مر التاريخ الثقافي للبشرية، وما تزال كذلك، وأن الأفكار والأعمال الوهمية التي حظيت بالقبول والاستخدام كخرافة من قبل المجتمعات المختلفة لا حصر لها، فإنه يمكن تقسيمها إلى النوعين التاليين؛ بلحاظ الإقبال الفردي والجماعي للأشخاص عليها، أو بلحاظ الأضرار التي تسبَّبت بها بشكل فردي أو اجتماعي للبشرية، وهما.
حين نتفحص التاريخ السياسي العربي سواء القديم أو المعاصر، نلمس عن قرب مدى مركزية الخرافة أو التأثير العاطفي في الوجدان الشعبي في صناعة القرار السياسي. ولعل أقرب شاهد على الفكرة مدى انتشار الحركات الإسلامية في تاريخنا المعاصرة وقوتها استنادا على كسب قلوب الناس بخطاب المظلومية تارة وبالخرافات ومناقب قادتها تارة أخرى وهذا الداء ليس بأمر جديد البتة.
فالتاريخ السياسي العربي يطوي بين دفتيه فكرة رئيسة مفادها أن الذي يسود سياسيا ويقدر على تأسيس كيان قوي هو الأقدر على توجيه عاطفة الناس.
فن صناعة الخرافات صناعة قديمة تراثياً ومرت بمراحل وتطورات ولكنها شهدت انتعاشاً غير مسبوقٍ في طروحات جماعات الإسلام السياسي التي اعتمدت عليها كثيراً في تجييش الأتباع وحشدهم وفي تجنيد أتباعٍ جدد وهناك طوائف تأثرت في ذلك الموروث حيث يعتمد أنواعاً مختلفة من الخرافات.
وهنا نقف للموقف السياسي تجاه ما جرى في غزة واضحٌ فلسطينياً وعربياً وتسويق المغامرات السياسية والعسكرية فشل في التنظير السياسي والعقلاني المتماسك والمقنع، وبالتالي فقد اتجه طارحوه إلى مجموعةٍ من الخرافات والتفكير التآمري الأول مصدره الخطابات الدينية والثاني مستجلبٌ من بعض طروحات اليسار العالمي التي أكل الدهر عليها وشرب.
وهنا يتعامل الكثيرون خيار حل الدولتين لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كما لو أنه في متناول اليد ومع ذلك فإن هذه النتيجة التي تمنح الفلسطينيين حقهم في الدولة لا تزال أبعد ما يكون عن التحقيق الأمر الذي تستحق معه صفة الخرافة السياسية.
ولو ألقينا نظرة على الخطاب السياسي كيف يحاول كسب الجمهور او توجيهه او ركوب أمواج حدث سياسي لكسب عواطف المتابعين طلبا لخلق التابعين.
فالأحزاب السياسية مثلا لا توجه خطابها للمثقفين والباحثين بل وأغلب الباحثين والمثقفين إن لم تكن لهم مواقع داخل حزب أو آخر تجدها متبرمة من المشاركة السياسة أو على الأقل المخالطة السياسية.
ومنه كان هجوم الأحزاب على المثقف بدعوى أنه أناني ويعيش في برجه العاجي ويتكبر على الرعية ويعيش أوهام العقل بعيدا عن مخالطة الناس والاهتمام بأمورهم.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الخرافات الدينية التي ندفع ثمنها دماء وأمنا وراحة بال والتي تتصادم فيما بينها فتفرز لنا حروبا لا تنتهي وكراهية دائمة الصلاحية وغير قابلة للانقراض.
والحركة الإسلامية بدورها ومنذ بدايتها سواء أكان الأمر بحسن النية أو بسوئها قد اشتغلت على كسب هوى الناس لإقناعهم ولذلك انتصرت على اليسار الذي وإن حاول بدوره كسب هوى الناس بخطاب المظلومية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحيين الكادحين فقد كانت أقدر منه على دخول قلوب الناس بخطابها البسيط وبسيرة قادتها الذين كانوا صحابة عصرهم من شدة الورع وكثرة الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة في مقابل حرص الرفيق على الدنيا ومحاسنها ومعاقرة للخمرة واستحلاله للمحرمات.
إن الإسلام كثيراً ما استُخدم كأيديولوجيا بديلة عن الأيديولوجيا القومية، كسبيل إلى تحقيق أهداف ومآرب سياسية مختلفة.
هناك مصطلحات وشعارات استبدلها قادة وحكام بشعارات عاطفية لجذب المواطن وهو ما اصطُلح عليه بـالتدين الشعبي والذي سُميّ بالإسلام الشعبي. وهذا كله يذكرنا بما يجري الآن في بعض الدول من استغلال أيديولوجي للإسلام من قبل بعض الجماعات، التي تعتبر نفسها حامية لبيضة الإسلام.
وفي هذا الإطار جاء الخميني بفكرة ولاية الفقيه، التي تقول بأن الفقيه الذي اجتمعت له الكفاءة العلمية وصفة العدالة يتمتع بولاية عامة وسلطة مطلقة على شؤون العباد والبلاد باعتباره الوصي على شؤونهم في غيبة الإمام المنتظر. ومع أن هذه الفكرة لم يقل بها علماء المذهب المحدثين ولا القدماء، لأن الفقيه العادل الذي بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق خصوه بالولاية الخاصة، لأن ترويج فكرة الخميني جعلت الفقيه مساويا للإمام المعصوم عند الشيعة، ولكن فكرة الخميني حشدت الملايين من الإيرانيين ليصنعوا له ثورة أطاحت بالشاه وأوصلته إلى الحكم كأنه نصف إله.
وهكذا نجد أن خلطة الخرافة السياسية محبوكة بعناية ومجهزة وصالحة لحشد الجماهير الغفيرة فى كل مكان وثقافة ودين وراء فكرة لا تدور إلا حول سُبل الوصول إلى السلطة ثم الانفراد بها بشكل ديكتاتوري لا يقبل المعارضة وعليه فلما كانت الخرافة أمراً غير عقلانى لا يقبل التفكير في منطقيته فبطبيعة الحال تأتى الخرافة السياسية في ذات الإطار لا تتقبله العقول النابهة ليكون مصيرها التصفية بعد اتهامهم بالكفر أو الخيانة لأن الخرافة السياسية حتى تنمو لا بد أن تجد التربة مهيأة والمناخ جاهزا لصنعها وتوظيفها بعيدا عن ضجيج العقول الراجحة وإلا تضمحل حتى تتلاشى فلتطور المجتمعات دورا كبيرا فى سحقها وزوال مهنة الدجل السياسي مرتبط بتطور الفكر الإنساني فأوروبا بالقطع تخلصت من الدجل السياسي وخرافاته القائمة على إشكالياتها القديمة العنصرية والعرقية والتضاد المذهبي الديني.
والحقيقة أن هذا لا يستمر طويلا فلكم أن تروا شدة تعلق صحابة عصرنا اليوم بالتعويضات وغنائم الكراسي وكرههم لمغرم المعارضة وخوفهم من فقدان ما بأيديهم.
هذه الأزمة تجسد لنا بالفعل أزمة العقل عندنا وهي سبب من أسباب الانكسارات التاريخية التي عشناها. فمعادلة التغيير منذ البدايات ارتبطت بهذه المقدمة كسب القلوب واستمالتها والنتائج في كل مرة هو أن تدول هذه الفئة وتسود أخرى.
والحال يقضي بأن تأتي أخرى الآن فتسود بنفس الطريقة ولاحظوا سيكون لنا معها إن هي مضت بنفس سرديات السابقين أي أن الطامح للتغيير يبدأ باستمالة القلوب لكسب الشعبية ثم ما يلبث أن يصير يركب تلك العقدة التي كان يدعو لفسخها بداية.
اعتقد أن الخرافات السياسية. لها مدلولات وتوجهات متعددة والتي يطلقها المسؤولون ويتحمس لها المحللون وينشغل بها الحالمون بهدف إشغالنا عن الفرص الحقيقية أو المخاطر الفعلية بما فيها المشاكل المحلية ومن هذه الخرافات نزع السلاح النووي الشامل والكامل لطالما حلم المثاليون بعالم بدون أسلحة وبدون حروب وبدون صراعات سياسية على مدى قرون عديدة. ومع ذلك فإننا لم نقترب من تحقيق هذا الحلم السرمدي. ومنذ اختراع التكنولوجيا النووية لا يزال يطالب السياسيون من مختلف الدول وفي بعض الحالات يتعهدون, بتخليص العالم تماماً من كافة الأسلحة النووية.
ومن هؤلاء الرئيس أوباما الذي أعلن من اليوم الأول له في البيت الأبيض بأن هذا هو هدف الولايات المتحدة البعيد المدى وكرر التأكيد على هذا الهدف عدة مرات مثل هذا الهدف كان وسيبقى حلماً بعيد المنال بل وخرافة سياسية ما دامت الدول القومية قائمة على وجه البسيطة. فهذا النوع من الدول تتمسك بالسلاح النووي وتواصل السعي لامتلاكه باعتباره السلاح الوحيد الذي يحقق لها الردع والصمود في وجه هيمنة القوى التقليدية الأكبر.
إن الدول النووية المارقة منذ بزوغ فجر العصر النووي والذين يعيشون أسرى للخوف من التهديدات يحاججون بأن الدول المالكة للنووي على استعداد تام لاستخدامه في سبيل الابتزاز أو ما هو أسوأ. ومع ذلك نجد بأنه منذ البداية وفي كل حالة لا يزال قادة الدول النووية يتصرفون بمسؤولية لسبب واضح وبسيط وهو أن الدولة النووية التي تخترق هذا التفاهم الضمني الإجباري ستكون أولى المكتوية بالنتائج الكارثية لتهورها. كما أن التظاهر بأن الدول المارقة أضحت ظاهرة مخيفة يعمل على تشويه النقاش حول سبل التعامل مع قضية حظر السلاح النووي ويضفي على خيار شن الحروب الوقائية الكثير من الجاذبية. ومن هنا سيكون من الأفضل التعامل مع الدول المارقة باعتبارها نسج خيال لا وجود لها.
أما العقل المدبر الإرهابي وهو تعبير أقرب إلى الدولة المارقة وتسري عليه ذات الأحكام. فإنها لم تنجح يوماً في الإطاحة بنظام أجنبي أو اجتذاب دعم وتأييد الملايين أو حتى تهديد نمط حياتنا. ولا ننكر بأن بعضها نجحت بالقيام بهجمات كبيرة إلا أنها تم تحجيمها في النهاية بصورة لا لبس فيها والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو ما يؤكد أن هؤلاء القادة وتنظيماتهم من النوع القابل للهزيمة بسهولة لا يستحقون معها لقب العقل المدبر العبقري فيما لو تمت معالجة العوامل التي تساعد على بروز هؤلاء من الأساس.
هنا صارت الخرافة في التاريخ القديم والوسيط داعياً للحرب والقتل والحرق ومن هذا المنطلق نجحت الخرافة في أن تؤثر في حياة شعوب بأكملها ثم ازدادت عنفوانًا بعد أن تداخلت في الأديان الكبرى بشكل سافر فصارت سبباً من أسباب الحكم بل شرعيته بيد أنه ومع تطور العلم الوضعي اهتزت مكانة الخرافة في صورتها القديمة فاتخذ الدجالون من المنتفعين بسطوتها النفسية على البشر منهجاً جديداً للسيطرة على عقول ومقادير الناس ألا وهو خلق الخرافة السياسية فظهر لنا أربابها أمثال هتلر الخميني وغيرهم، جميعهم نماذج فريدة لمفكرين يمارسون الدجل السياسي باقتدار ما بعده اقتدار إذ يحيطون أنفسهم بهالة فكرية مقدسة يصنعها لهم التابعون، يصفقون لهم وهم يروجون لأفكار خرافية باعتبارها لا تقبل الجدال العقلاني، وهي خليط من طموحات الشعوب وانكساراتها ومعتقداتها الدينية الملتبسة بالخرافات. جاء هتلر ونادى بألمانيا النازية العظمى بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى وخَلَق أسطورة الجنس الآرى الذى أقام حضارة الإنسان وله حق الوصاية على العالم.
بينما لايزال الشرق مكبلا بأزمته الأزلية وهى نظام الحكم والتي أفرزت بشكل تلقائي في العصر الحالي دجالين سياسيين لهم لِحَى طويلة ومن خلفهم التابعون حَمَلة المباخر المسمومة يشهرون فوهات بنادقهم صوب معارضيهم ومن يحمل في رأسه وعاء لا يقبل غير أفكارهم.
مازال البعض من فلول الخرافيين وأتباعهم يسعون بشتى الوسائل للحفاظ على جهل الناس بل والعمل على تجهيلهم وبث الخوف وزعزعة ثقتهم بأنفسهم وتشكيكهم بالعالم كي لا يفقدوا السيطرة عليهم، والعمل على تمرير خرافاتهم وأجنداتهم، ولكن تيار الوعي أكبر منهم والناس أصبحت تحسن استخدام العقل والتفكير قبل استقبال أي معلومة بل وتحليلها ومحاكمتها. يقول الشاعر والروائي الألماني تيودور فونتاني (كم من ديك صدَّق أن الشمس تشرق بصياحه).
ولكن الأخطر من هذا، عندما يختفي دور العقل نهائياً وتفرغ ساحة الحياة من العقل وتحلُ محلَه الخرافة، وخاصة الخرافة الأيديولوجية كذلك سواء كانت سياسية، أو اجتماعية، أو دينية.
ليست العقلانية المطلقة دليل الصواب والصلاح. فالعقل الأيديولوجي على سبيل المثال عبارة عن أداة لتحقيق مآرب وأغراض سياسية واجتماعية. وفي هذا يقول الفيلسوف الألماني ماكس هوركايمر في كتابه (كسوف العقل) عن العقل الأيديولوجي الذي فقد استقلاله بعد أن التهمه وحش الأيديولوجيا إنه أصبح خاضعاً للمسار الاجتماعي. فلم يعد هناك سوى مقياس وحيد لقياس قيمة العقل وهو قيمته الإجرائية ودوره في السيطرة على البشر والطبيعة.
الخرافات على مراحل وبمسميات مختلفة، وهي تزيد لدى بعض الفرق وتنقص عند غيرها وهذا متفق مع طبيعة البشر ومنطق التاريخ ولهذا فقد وجدت الخرافات لدى أهل السنة بوصفهم الأغلبية الحاكمة سياسياً والمتحكمة ثقافياً واجتماعياً ولكن وجد أضعافه عند فرق الأقليات التي كانت تمثل المعارضة مثل الأقلية الشيعية أو الإسماعيلية أو نحوهما.
ويعتبر التقليد الأعمى من العوامل الأخرى التي لعبت دوراً مؤثراً في إشاعة الخرافات. ففي كل المجتمعات هناك الكثير من الأفراد من الشرائح الأمية، بل من المتعلمين أيضاً يتعلقون ببعض الأشياء أو يتذمرون من بعض الأمور دون وعي وبدون التدبر في آثارها الإيجابية أو السلبية والبحث عن مدى صحة أو بطلان بعض المعتقدات انطلاقاً من تقليدهم الأعمى للآخرين وعلى خلفية امتلاكهم للعقد النفسية السيئة والشعور بالأفضلية على الآخرين في حين أنهم لا يمتلكون أي دليل معقول لرفض أو قبول المواضيع التي ليس لها أي تأثير في مجريات حياتهم وعاقبة أمرهم.
من السهل أن يتحول العقل إلى خرافة أو أسطورة، كما حصل في جانب من عصر الأنوار، نتيجة للمبالغة في استعمال العقل من قبل بعض المفكرين وعلى رأسهم الفيلسوف كانط. ولكن ذلك لم يحدث لدينا نحن العرب في العصر الحديث.
كان ومازال عالمنا العربي اليوم يعيش أقصى مستويات التفكير الخرافي السياسي الذي لم يولد إلا الهزائم والتخلف والتجزئة، الأمر الذي دفع بعض مثقفينا إلى القول إن "عقلنا" مغتال في كيانه وحريتنا مصادرة في أوطانها، من خلال هيمنة سلطة قهرية متمثلة في الأنظمة العسكرياتية أو في أنظمة الحكم الكليانية المسيطرة على عقول ومقدرات الشعوب.