• اخر الاخبار

    الأصالة الشعرية ومنعطفات التلقي قراءة لقصيدة (كتاب متدلّ) للشاعر الراحل ناظم الماهود


    بقلم ..نور الموسوي

         القصيدة الحديثة هي نص مفتوح يموج بالرؤى ، ويمخر عباب المخيلة ، لأنه يشع بالغموض ، ويسكب أهداب الوعي من اللاوعي ، والشاعر حين يتجرع ترف الشعر تتمخض عنه العملية الإبداعية ؛ ما يجعله يترجم إدراكاته ترجمةً جمالية فنية " ويقيناً أنَّ إدراكاته تلك تبدأ حية ، ثم تترقى إلى خيالية ثم تنتهي ذهنية يرافقها – وهذه سمة الإدراك الجمالي – إدراكات وجدانية عاطفية - فالعملية الإبداعية هي عملية قراءة جديدة للموجودات ، تجمع وتضم الشيء إلى الشيء من جهة ، وتضم الذات التي هي ذات المبدع بكل طموحاتها وآمالها ومواقفها الفكرية والنفسية من الوجود ، إلى الأشياء فيسقط المبدع بموجب ذلك ذاتيته على الأشياء ويمنح ذاته ما في الأشياء من خصب " (العمل الأدبي من المعنى إلى الشكل : عباس أمير : 47) وبهذه الدورة الإبداعية ينتج الأديب ولا سيما الشاعر نصه .
        والشاعر الراحل ناظم الماهود من الشعراء الذين اختطوا صياغات ورؤى شعرية متفردة بوصف الشعر الحداثي عالماً يعيشه صاحبه بخياله وحدوسه مستلهماً موضوعات واقعية ، ينسجها بأسلوب يتوافق مع ذوق العصر الذي بات يلفه الغموض والتعقيد والوجع النفسي كذلك القصيدة .
         والماهود من الشعراء الذين تركوا بصمته في الأدب والمحافل الأدبية ولا سيما البصرية بوجهٍ خاص ، وكتبَ الكثير من القصائد الحداثية التي تمتعت بأساليب الشعرية انبنت عليها القصيدة المعاصرة .
           ويطيب لنا أن ندرس قصيدة الشاعر الراحل الماهود التي عنوانها ( كتاب متدل) التي ينتقد فيها الانقطاع عن تلقي الأصالة في ميادين الحياة ومنها ميدان الأدب ، فهو يقول :
    الكتابة حصدت أناملي 
    جوار ركن كتابي المتدلي
    تأقلم غصن الشك 
    على وريقة اللغو 
    تهتُ بين رصيد القرابين 
    وألوان لوح التموج 
    وتلاشي الإرث الحي بينهما 
    أتسابق البوح بلا كفين 
    على وشك
    الوصول لمتن الرغبة .
         إذ نرى الشاعر يأسى من الواقع المهترئ الذي لا يبيح الرغبة في الكتابة ؛ لأنه يرى أن الكتابة لا تأتي إلا بطقوس خاصة،  وإن توفرت الأفكار فلا رغبة ، ولا حياة يعيشها الإنسان تمنحه طاقة يضاعف فيها قدراته ، فالكتاب المتدلي ويقصد به الأفكار الأصيلة التي كُتِبت بظروف أكثر جدية من ظروفنا الآنية التي تمرد فيها الإنسان على كل شيء يمكن أن نأخذ به ؛ ليقودنا إلى حافة الأمان .فقوله : ( الكتابة حصدت أناملي) أي أتعبته لفرط ما يكتب ، لكنه يكتب جوار كتابه المتدلي الذي يعده عريقاً لكن لم يمر عليه أحدهم لعزوف الناس عن القراءة والانشغال باتجاهات أخرى كالعمل لسد رمق العيش أو والتوهان في دروب اللهو وغيرها ؛ مما يخلع من الانسان الحالي رغبته، فيعزف عن القراءة بإشارة الشاعر لهذا المعنى بقوله : (تأقلم غصن الشك على وريقة اللغو ,تهتُ بين رصيد القرابين ،وألوان لوح التموج ،وتلاشي الإرث الحي بينهما ) فهذه السطور تعبر عن يأسه وشكوكه فتاه بين رصيد القرابين إشارة إلى الكلمات التي تحمل أفكاراً غير مستساغة في عصرنا الحالي ، لأن القيم زالت والالتزامات انحسرت ، فصار المجتمع يعيش الفوضى في ظل الأفكار التي شاعت لدى كثير من الشباب وأثرها ليس الكتاب إنما (وسائل التواصل الهجينة) عبر الأنترنيت ، فيرى نفسه تائهاً بين هذي وتلك ، ثم يصور لنا صورة أخرى هو تسابق البوح بلا كفين إشارة إلى الجري بلا مرسى ولا هدف عساه أن يصل متن الرغبة ، أي رغبة الكتابة الحقيقية .
          ثم يقول ليزرع التفاؤل في ذاته عساه يعيش اليقظة :
    من يصلب الكلمة ؟
    العمود استيقظ 
    حين راى رباطة الجأش 
    أزاح الارض عن رأس العتمة 
         وإنه قرر الكتابة على الرغم من أنَّ الجميع لا يقوى على ذلك ، فكتب كلمات أراد بها تغيير الواقع الذي أصابه الصمم من قولة الحق ، لذلك نراه يتحدى الشعراء والكتَّاب أن يدحضوا ما يجري في الواقع من متاهات وتبدل الذوق الأصيل ؛ كي يستفيق الأبناء على تراث أمتهم وعلى مصيرهم الذي تلفع بالضباب والفوضى ، فاستيقاظ العمود يقصد الأصالة في ذاته ، أما حين غابت الأصالة عن الكتابة لمغازلة الذوق الحالي الذي نعته بغياب العمود حين قال :
    ترك ذرات القصيدة تتلوى 
    الساحة فضحتني
    الكواليس عرضت أدوارَهم 
    بلا نصٍّ 
    كانت من أجمل كتاباتي .
         إذ أنها واكبت العصر فاستشعرها من هو في الساحة بيد أن الشاعر لم يقتنع بذلك بينما من كان لا يأبه بتراثه هو من استطاب القصيدة العارية إلا من شكلٍ لايمت بأي صلة ؛ مما كان الشاعر حريصاً عليه ، فكانت النتيجة أن المتلقين صفقوا لكن بلا مناجل ، يقول :
    صفقوا بلا مناجل 
    أشاعوا حصاد التبرعم  
    تركوا الغصن موتورا 
    حرفاً يكرر المشهد على خشبة اللاوعي
    بلا وعي .
         ويبدو أن التصفيق بلا مناجل إشارة إلى جفاف الإفادة من الأفكار التي تطرح كونها بعيده عن الهدف ؛لأن حياة الناس صارت تستجيب لكل ما هو لا يمت بالأصالة ، فصارت النصوص المزخرفة هي ما يطلبها الذوق ؛ لأن العصر صار بعيداً عن كل ما هو حيوي وهادف ، ما جعل الجمهور يصفق  مثلما يُترك الغصن موتوراً ؛ لأن الموضوعات التي باتوا يألفوها هي موضوعات شكلية لا نفع فيها فجعله ذلك يعود أدراجه كلابس خوذة بلا رأس . فهو يقول :    
    أعود خوذةً بلا راس 
    بجانب الشجرة 
    لا فرق هنا 
    الكل يسمو بلا انحناء 
    رغم انقراض الحرف .
        فعودته بتلك الهيأة  كما الشجرة التي تثمر ولا يُفاد من ثمرها سوى منظرها الجميل ، فلا فرق بين من يعي ومن لايعي ، فالجميع يقف من دون انحناء رغم انقراض الحرف الذي ظل شاخصاً من دون أن يهتم به أحد لذلك وصفه بالانقراض. وبهذا النص الذي يحمل معاني متعددة تدور حول دلالة النص المركزية استطاع الشاعر أن يمدنا برؤيته لما لمسه من غياب للأصالة الفنية والتوجه نحو بريق الأشياء ليس إلا .
    ad728