• اخر الاخبار

    النساء الأفغانيات: المذكرات السرية لتغير حياة الناس ..ترجمة للغة العربية تقى محمود ابراهيم من جامعة البصرة

     



    ٩/كانون الأول/٢٠٢١

    عندما احتلت حركة طالبان مدينة كابول في الخامسة عشر من شهر آب لم يطلقوا الرصاص إلا للاحتفال، لم تكن تلك الرصاصات إلا رمزاً لسلب الحقوق و الحريات بالنسبة للنساء. خمسة منهنّ كانت ترسل مذكرات يومية لإذاعة البي بي سي لتكون لنا صورة لنمط حياتهم المتغير بسرعة.

    ١٥ آب "يوم الحساب"

    هناك مشهد في مسلسل حكاية أمة، المبني على رواية مارغريت آتوود الديستوبية، حيث أن بطلة الرواية و هي محررة كتب تدعى جون اوزبورن، تصل لمكتبها صباحاً فتتلقى خبراً بأن الحكام الجدد للبلد قد حظروا العمل على النساء. فيجمع مديرها كل النساء العاملات و يأمرهن بحزم ممتلكاتهن للمغادرة.

    في الخامس عشر من شهر آب لعام ٢٠٢١، تمر ماري، و هي جنديةٌ سابقة في الجيش الافغاني، بتجربة مماثلة. في تمام السابعة و النصف تتجه لعملها في إحدى المؤسسات الحكومية، متوقعة أن في انتظارها يوم حافل بالإجتماعات و المؤتمرات. ما إن خطت أولى خطواتها نحو الخارج حتى لاحظت ان الشوارع هادئة لكنها استمرت في طريقها بينما هي تتأكد من مواعيدها على الهاتف.

    فأخبرها زملاؤها الذكور بدهشة حينما رأوها قادمة "لقد جئتِ للعمل!"، فأجابتهم قائلة "لا أظن أن كابول ستسقط".

    لم تكد ان تضع حقيبتها ارضاً حتى جاء مديرها مصارحاً اياها "اذهبي و اخبري جميع النساء ان يغادرن لمنازلهن". فامتثلت لأوامره متنقلة من غرفة لأخرى و هي تخبر العاملات بأن يغادرنَ على الفور، و لكن عندما طلب منها مديرها المغادرة رفضت ذلك و أخبرته انه طالما زملاؤها الذكور باقين ستبقى هي أيضاً.

    ماري ليست مجرد موظفة عادية، بل هي مسؤولة رفيعة المستوى و سجلها العسكري حافل بالإنجازات، فقبل مديرها بقولها على مضض.

    بينما كان اليوم مستمراً، صار مستحيلاً تجاهل أخبار طالبان و هم يقتحمون كابول، فقرر مدير ماري أن يغلق أبواب الوزارة و يرسل الجميع لمنازلهم.

    أما خطيرة و هي مدرسة جغرافية قد بدأت درساً جديداً في مكان آخر من المدينة، و كان تلامذتها المراهقين و البالغ عددهم أربعون تلميذاً يقلبون صفحات الكتاب للعثور على الصفحة المطلوبة.

    قبل وقت طويل، كان الأساتذة يدخلون الصفوف حاملين هواتفهم، و كانت الاخبار على الفيسبوك متضاربة : فبعضهم يقول ان طالبان متواجدة في قارغا و هي مدينة تقع في إحدى ضواحي كابول، و البعض الآخر يقول أنهم متواجدون في كوتة سنكي اي في مركز المدينة. فيوقف كبير المدرسين الدروس و يرسل الجميع للمنزل. عندما وصلت خطيرة إلى محطة الحافلات رأت الناس يركضون في جميع الاتجاهات حاملين اطفالاً و أمتعة. و إشارة المرور  قد توقفت. فتكتب "كأن الجميع تائهين". "الوضع هنا كأنه يوم الحساب". بدأت خطيرة بالمشي و لم تشعر بالقلق، حتى لاحظت جنود الجيش الافغاني حاملين حقائبهم فوق ظهورهم و متوجهين نحو المطار بينما أطفالهم يمشون وراءهم ممسكين بأطراف حجابات أمهاتهم. لقد همَّ الجميع بالمغادرة.

    ما إن سمعت خطيرة أصوات ركض حتى بدأت بالهرولة، و حينها علمت ان حركة طالبان قد عادت. و ظلت تردد بصوت لا يسمع "إنه الكابوس الأسوء على الإطلاق".

    في الوقت نفسه تقريباً، تستلم زالا، و هي طالبة في الجامعة الامريكية في أفغانستان، رسالة فحواها انه سيتم اجلاؤها الولايات المتحدة خلال ثمانية و أربعون ساعة. فتقوم بزيارة سريعة لشاري ناو و هي منطقة للتسوق تقع في الشمال الغربي لمدينة كابول، لتشتري الحاجات الضرورية قبل سفرها السريع. زالا أيضاً تلاحظ الناس و هم يركضون فتبدأ بالسؤال عمَّا يحدث. الشخص الأول الذي توقفه لم يرد على سؤالها لأنه كان على عجل من أمره، فيخبرها رجل آخر ان حركة طالبان قد احتلت كابول. احست زالا انها قد شُلت. و كانت تخبر نفسها قائلة "قد خارت جميع قواي، و أصيبت يداي و قدمي بالإرتعاش، كيف سأصل لمنزلي؟" فتبكي عندما تمر بجانب المطاعم و المقاهي حيث كانت تلتقي بأصدقائها ، تحتسي القهوة، و تستمع للموسيقى. فتمر حياتها أمامها كالوميض. لم تشهد حكم طالبان سابقاً لصغر سنها، لكنها سمعت قصصاً مفزعة من والديها اللذان عاصرا حكم طالبان في تسعينيات القرن المنصرم. إن لم تركب الطائرة، سيكون هذا الرعب مستقبلها.

    الرابع من أيلول، النساء ينتفضنْ

    قبل الاحتلال، كانت وحيدة أميري، و هي امرأة تبلغ من العمر واحد و ثلاثون سنة، تخرجت من كلية القانون و تملك مكتبة في قلب مدينة كابول. جمعت ما يقارب الخمسة آلاف كتاب حالمة بالتوسع في جميع أنحاء أفغانستان لتشجيع النساء على القراءة. كانت ترى تصرفات طالبان بدورياتهم المرورية في الشوارع و تحكمهم بحياة الناس ليست سوى عمل مجحف يجب التصدي له. فيزداد غضبها بمرور الوقت. فتسأل اي شخص تلتقي به "لم لا يقول أحدٌ شيئاً؟ لم لا يفعل احدٌ شيئاً؟".

    تجلس وحيدة في شرفة منزلها بعد أن منعت من العمل. كان مكانها المفضل في المنزل حيث تسمع ثرثرة الناس، زقزقة العصافير، و نباح الكلاب. لكن المكان الآن هادئ كمقبرة. في أواخر شهر آب كانت تحسب عدد الطائرات المغادرة من مطار كابول، تارة عشر طائرات في اليوم الواحد و تارة أخرى عشرون طائرة تحمل الافغانيين بعيداً عن موطنهم.

    فراحت تتساءل "ان كان الجميع سيغادر، من الذي سيبقى؟". هل سيختفين كل النساء المثقفات؟ و فكرت في نفسها "إن أفغانستان جريحة، و محطمة إلى شظايا صغيرة".

    في إحدى أمسيات يوم الجمعة، تجمعت بعض النساء في منزل إحدى الصديقات و أطلقن على انفسهن الحراك التلقائي للأفغانيات المحاربات. و في اليوم التالي، الرابع من أيلول، خرجنَ للشوارع مطالبات بحقوق منصفة.

    التقين في مركز للتسوق يدعى فوروشكاه، و كان هدفهن هو الوصول إلى القصر الرئاسي الافغاني. و لكن بعد المسير لمسافة قصيرة عند وزارة المالية، تصدت لهم جنود طالبان القساة. فأخبرتنا "لقد كان عددهم كبيراً و حاصرونا من كل الجهات مكونين حلقة حولنا، فأخبرناهم أن احتجاجاتنا سلمية. و قبل أن يطلقوا سراحنا حاصرونا بجانب إحدى الاسوار و أطلقوا علينا الغاز المسيل للدموع".

    في الأيام التالية، قالت بعض النساء أنهن تعرضن للطعن بالخناجر، للجلد بالسياط، و الضرب بالعصا ذات الصعقة الكهربائية.

    السابع من أيلول – انا لا أخشى اسلحتكم

    في هذا اليوم أعلنت طالبان انتصارها في وادي بانجشير، و هي مقاطعة صغيرة في شمال أفغانستان اشتهرت بمقاومتها للإتحاد السوفيتي و حركة طالبان في التسعينيات. فكانت المنطقة الأخيرة التي لم تقع تحت سلطة العصابات المتمردة.

    وحيدة، التي تنحدر عائلتها من وادي بانجشير، تخرج للشوارع مجدداً ولكن هذه المرة برفقة حماتها و ستة من أصدقائها. بينما كانت تطالب بوقف إطلاق النار في بانجشير تلتقي بحشدٍ غاضب من جنود طالبان حاملين أسلحة اي كي_٤٢ اس. فيقترب أحدهم من وحيدة و يهددها   قائلاً "من الأفضل لكِ ان تذهبي للمنزل و تعدي الغداء" فأجابته "انا لا أخشى سلاحكم، و بمقدرتي ان اناقشك في اي موضوع تريد. و لست ذاهبة للمنزل لأعد الطعام". في اليوم التالي منعت طالبان الإحتجاجات.

    السابعة عشر من أيلول – إنقاذ الأرواح

    إن النساء في مجال الرعاية الصحية في غاية الأهمية و فقدانهن له نتائج كارثية. ماهرة ،و هي  طبيبة شابة مختصة بأمراض النساء و التوليد في مشفى مهم في إحدى المقاطعات الشمالية لأفغانستان. بقيت في المنزل خلال الأسبوع الأول من الاحتلال، حتى تلقت اتصالاً بالعودة للمشفى بالرغم من صعوبة العمل تحت إمرة طالبان. قالت "كانوا يوجهون اسلحتهم صوب كل شيء، و عندما يشتكي المرضى بسبب سوء الخدمات و اسعار العقاقير يأتون لتهديدنا. كانوا يعتقدون إننا لا نعامل مرضانا بشكل منصف". عدد كبير من الأطباء غادروا المنازل و اغلقت معظم العيادات أبوابها. تسافر ماهرة الآن إلى اثنا عشرة مقاطعة مقدمة  خدمات طبية تعنى بالأطفال و الأمهات . إنه عمل حساس للغاية خصوصاً ان أفغانستان تشهد أعلى معدل عالمياً في الوفيات بين الأمهات و الأطفال الرضع. قالت ماهرة "في ايامي الأولى لبست شاديري او الجادر (وهو قماش يغطي المرأة من الرأس حتى القدمين)، و كان جسدي يرتعش بأكمله تحت هذا الغطاء. و بمرور الأيام اعتاد جنود طالبان على رؤيتنا و لم أعد بحاجة لارتدائه".

    الخامس و العشرون من أيلول – فؤاد محطم

    بعد مرور اسبوع من إعلان طالبان إعادة فتح المدارس للطلبة الذكور، تتلقى خطيرة مكالمة من المدرسة طالبين منها المجيء. ترتدي ملابس المدرسة و تشق طريقها إلى ما تمسيه بمكانها السعيد. لقد افتقدت مدرستها و رائحة الطبشور عندما تكتب على السبورة و وقاحة طلابها عندما يختبرونها بأسماء العواصم و المدن. فكانت تتقد لشدة حماسها. لقد بدى اشتياق تلاميذها لها واضحاً عند وصولها. فأخرجوا مذكراتهم طالبين منها ان توقع لهم، كما يطلب المعجبون تواقيع المشاهير. لكن رئيس المدرسين طلب منها الحضور إلى المكتب فوراً. فترى أن جميع زميلاتها حاضرات أيضاً، و أُمرهن بالتوقيع على السجل و العودة لمنازلهن. فأخبرهن قائلاً " إن إمارة أفغانستان الإسلامية ما زالت تمنع النساء من العمل".

    لماذا استُعيدتْ جميع المدرسات بلا سبب إذاً؟ تظن خطيرة ان رئيس المدرسين يريد أن يتملق طالبان فيريهم تواقيع النساء اللواتي ابدين استعدادهن للعمل. توقفت خطيرة عند بوابة المدرسة التي عملت فيها عشر سنوات تقريباً. أرادت ان تخبر تلاميذها أنها ستعود يوماً ما، لكن دموعها منعتها من فعل ذلك. و بالرغم من صدمة خطيرة و خوفها يوم احتلال طالبان لكابول، إلا إن هذا الأمر حطم فؤادها.

    السابع و العشرون من نيسان – "إنهم يبحثون عنا"

    ماري و الرفيق السابق في الجيش الوطني الافغاني قد اختبأوا منذ وصول طالبان. و قد وعدت طالبان جنود و جنديات بالعفو عنهم لكن ماري لا تصدق اكاذيبهم. و تقول "لقد قاموا بزيارة لمنطقتي عدة مرات سائلين الناس عن محل تواجدنا. قائلين انهم يودون التحدث معنا لأننا نخبئ أسلحة في منازلنا". سمعت إحدى زميلات ماري التي حاربت ضد طالبان طرقاً على باب دارها و عندما نظرت من ثقب الباب وجدت أحد أصحاب المحلات لكنها لم تفتح الباب له. فبدأ يتحدث مع الباب المغلق على أمل إني استمع له من وراء الباب." إنهم يعرضون صورتك للجميع، لقد رأيتها بأم عيني، ان كنت ما زلت هنا فأنقذي نفسكِ و غادري رجاءاً".

    لقد كانت ماري مستضعفة خصوصاً و أنها من طائفة الهزارة الشيعية المضطهدة. و لم يعد لها مكان تذهب اليه بعد أن طردت طالبان أهلها من وسط أفغانستان. اخبرتني ماري "قد اموت جوعاً لأنني غير قادرة على مغادرة منزلي، و لن يدري احد شيئاً عن ذلك". تقول ماري ان المجتمع الدولي قد نسي الجنديات الأفغانيات. فهي تتواصل كل يوم مع أناس في خارج البلاد لمساعدتها، لكنهم ابعد من بعد السماء عن الأرض.

     الخامس من تشرين الثاني – بإنتظار الرحيل

    ولدت زالا بعد احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان. و كان والدها ميسور الحال  فدرست القانون و العلوم السياسية في جامعة مرموقة لتمكن والدها من دفع تكاليف الدراسة. رحلتها الأولى التي جهزت نفسها لها لم تتحقق. و منذ ذلك اليوم كانت تصلها اخبار انها سيتم اجلاؤها خلال بضعة اسابيع. فأصبح حزم الحقائب و ترتيب الاغطية شعيرة لديها و لدى عائلتها. كتبت زالا "اليوم قد وضعنا جميع الصحون و ادوات المائدة جانباً، فقد حصلنا على وعد بالرحيل خلال اربع و عشرون ساعة. اوه، و اخبرونا ان لا نحمل حقائب كبيرة، لذا سأجهز حقيبة ظهر لا أكثر". الفتاة المراهقة التي لطالما أحبت ان تغير من مظهرها، قد ابعدت بنطالها الضيق و بلوزاتها و اوشحتها المفعمة بالألوان الزاهية و استبدلها بحجاب اسود سادة. فقالت "لم البس شيء كهذا سابقاً" لم تعتد على ارتداءه لذلك يستغرق منها وقتاً طويلاً لتجعله يبدو بالشكل الصحيح. "الآن حان وقت الحجاب". فتغطي وجهها بأكمله حتى لا يميزها احد عندما تخرج.

    الثالث و العشرون من تشرين الثاني – مائة يوم

    لقد مضى مائة يوم بالتمام و الكمال منذ احتلال طالبان لأفغانستان و دخولهم مدينة كابول. في معظم المناطق و بضمنها العاصمة كابول بقيت الفتيات ممنوعات من الذهاب للمدارس الثانوية و النساء محظورات من العمل. أما مناصبهم فقد بقيت شاغرة او أُعطيت للرجال. اقتصاد البلد في انهيار مستمر لغياب الإغاثة الدولية و اخذت درجات الحرارة بالانخفاض شيئاً فشيئاً. و وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي فإن ٩٥٪ من الافغانيين لا يملكون ما يكفيهم من الطعام. فالمعلمة خطيرة و الطبيبة ماهرة هنَّ المعيل الوحيد لعائلاتهن و بالكاد يقدرن على توفير القليل من الطعام على المائدة. فلم تدفع لهن رواتب منذ أشهر. في هذا الوقت من كل عام تعمل التدفئة المركزية في المنازل، و لكن ليس منزل في منزل خطيرة، فهي لا تملك المال لتدفع فواتير التدفئة.

    السادس من كانون الأول – الحياة متوقفة

    وحيدة أميري قد تفاقم تعبها. لكنها مصرة أن تكون الصوت المسموع للنساء الأفغانيات. لقد تمكنت ماري من مغادرة كابول و هي تعيش الآن في مكان لن نكشف عنه – و بعد مغادرتها بيومين فقط جاءت طالبان لمنزلها. أما خطيرة فهي تجلس في منزلها حالمة بالعودة للمدرسة و البرد يحيط بها. و زالا ما تزال تنتظر الرحيل. و قد استلمت اليوم ايميلاً بأنها ستغادر خلال الاربع و عشرون ساعة القادمة. و قد بدأت تعتقد أنها لن تغادر ابداً. أما ماهرة فقد تلقت عرضاً بالزواج من أحد الأشخاص المرتبطين بحركة طالبان. ولا تريد الزواج منه. و كل يوم تواجه القرار المرير نفسه،  أتنقذ حياة مرضاها أم تنقذ حياتها.

    جميع الأسماء تم تغييرها باستثناء اسم وحيدة أميري.

    ترجمة : تقى محمود ابراهيم

    رَسم : غزال فرخاري

    ad728