الفراشة والدبابة قصة قصيرة من الادب الانكليزي للكاتب ارنست همنغواي ترجمتها للعربية زينب طالب محمد عبد الله من جامعة البصرة
"الفراشة
والدبابة"
كنتُ أسير في طريقي إلى المنزل هذا المساء من مكتب الرقابة الى فندق فلوريدا
وكانت السماء تمطر. وفي حوالي منتصف الطريق الى المنزل سئمت من المطر وقررت التوقف
عند مقهى شيكوت من أجل زيارة سريعة. كان الشتاء الثاني من القصف في حصار مدريد وكان
كل شيء ناقصاً كالتبغ وطباع الناس وكان الجوع مصاحباً لك طوال الوقت و فجأة ومن غير
مبرر ستصبح مستاء من اشياء ليس بمقدورك فعل شيء حيالها مثل الطقس. كان يجب علي الذهاب
الى المنزل .لقد كان على بعد خمسة مبانٍ فقط، ولكن عندما رأيت مدخل شيكوت اعتقدت بأنني
سأحظى بزيارة سريعة فقط وبعدها أقطع المبانِ الست عبر الوحل والأنقاض في الشوارع التي
حطمها القصف.
كان المقهى مكتظاً. لم يكن بمقدورك الاقتراب من الحانة وكل الطاولات ممتلئة. كانت ملأى بالدخان و الغناء و رجال يرتدون لزياً
موحداً و ورائحة المعاطف الجلدية المبتلة وكانت المشروبات تدار من فوق الناس في عمق
ثلاث صفوف.
وجد نادل اعرفه كرسياً من طاولة أخرى وجلستُ مع الماني نحيف أبيض الوجه مع تفاحة ادم بارزة في عنقه كنت اعرفه اذا كان يعمل في الرقابة وشخصين اخرين لا أعرفهما. كانت الطاولة في منتصف الحانة قليلا الى جهة اليمين اثناء الدخول. لم يكن بإمكانك سماع نفسك تتحدث بسبب الغناء وقد طلبتُ مشروباً لعلني أدفأ. كان المكان مكتظاً حقاً وكان الجميع مبتهجاً جداً، ربما يحصلون على هذا الكم من المرح بسبب المشروبات الكاتالونية المصنوعة حديثًا التي كان معظمهم يشربونها. صفعني شخصان لم أعرفهما على ظهري وعندما قالت لي الفتاة الجالسة معنا على الطاولة شيئا ما، لم اتمكن من سماعها وأجبت قائلا " بالتأكيد".
كانت تبدو فظيعة . الان توقفتُ عن النظر حولي وألقيت نظرة على طاولتنا،
كانت فظيعة بالفعل. لكن اتضح، عندما جاء النادل، ان الذي سألتني عنه كان الحصول على
مشروب . لم يكن الرفيق الذي جاء معها يبدو قوياً للغاية لكنها كانت ذات قدر كافٍ من
التمرد لكلاهما. كانت لديها أحد تلك الوجوه القوية وشبه الكلاسيكية و لديها بنية كأنها
مروضة اسد. وكان الصبي الذي برفقتها يبدو كما لو أنه يجب عليه ارتداء ربطة عنق قديمة.هو
لم يكن كذلك على أي حال. فقد كان يرتدي معطفا جلديا مثل بقيتنا. غير إن المعطف فقط
لم يكن رطبا لأنهم كانوا في المقهى قبل أن يبدأ المطر بالهطول. الفتاة كانت ترتدي معطفا
جلديا أيضاً واصبح شكل الوجه الذي كانت عليه.
بمرور الوقت تمنيتُ لو انني لم اتوقف عند شيكوت وانما ذهبت الى المنزل مباشرة حيث بإمكانك تغيير ثيابك وتجفيف
نفسك واحتساء شراب براحة على السرير مع رفع قدميك، فقد سئمت من النظر الى كلا من هؤلاء
الشابين. الحياة قصيرة للغاية على ان تقضيها في النظر لامرأة قبيحة جداً تجلس هناك
على الطاولة، انا كنتُ كاتباً ومن المفترض ان يكون لدي فضول يستحيل إشباعه لكافة أنواع
الناس، الا انني لم اكن مهتما حقا بمعرفة إذا كان هؤلاء الشخصان متزوجان، او ماذا رأوا
ببعضهم، او ماهي توجهاتهم السياسية، او ما اذا كانوا يمتلكون القليل من المال، أو اي
شيء حيالهم. قررتُ انهم يجب ان يكون عملهم في الراديو. في أي وقت رأيت فيه مدنيين بمظهر
غريب في مدريد فإنهم يعملون دائماً في الراديو.
لقول شيء ما رفعت صوتي فوق الضجيج
وسألت " هل تعمل في الراديو؟ "
قالت الفتاة "نحن"..وذلك كان فيها . لقد كانوا في الراديو.
قلت للرجل الألماني " كيف
حالك ايها الرفيق؟ "
"
بخير، وأنت؟ "
قلت " رطب "، وضحك الرجل ورأسه مائل على جانب واحد.
سألني " ليس لديك سيجارة؟ " .
سلمته اخر علبة سجائر وأخذ منهم سيجارتين. أخذت الفتاة المتمردة اثنتين
والشاب الذي كان يرتدي ربطة عنق مدرسية قديمة أخذ واحدة.
صرختُ " خذ اخرى ".
أجاب " لا، شكراً
" واخذها الرجل الالماني عوضا عنه.
"
هل تمانع؟ " ابتسم.
قلت " بالتأكيد لا امانع ".
كنتُ معارضا وهو علم بذلك.
لكنه أراد السجائر على نحو مُلّح حيث ان رأيي لم يكن مهماً.لوهلة من الزمن
انخفض صوت الغناء، أو أنه كان هناك انقطاع فيه كما يحدث في العاصفة في بعض الاحيان، اصبح بامكاننا جميعاً سماع ما نقوله.
" كنتَ هنا لفترة طويلة؟ " الفتاة القوية سألتني.
لقد لفظت " كُنتَ " بطريقة تجعلها أشبه بكلمة " كَوّنتَ ".
قلتُ " اكون هنا بين حين وآخر "
" يجب ان نخوض نقاشا جادا "، الرجل الألماني
قال.
" اريد التحدث معك. متى نستطيع التحدث؟ "
قلت " سأتصل بك". هذا الرجل كان غريبا بالفعل ولم يكن محبوباً
من قبل الألمان الصالحين. لقد عاش تحت وهم أن بإمكانه العزف على البيانو، لكن ان منعتَه
من الاقتراب من البيانو سيكون بخير، ما لم
يتعرض للكحول او فرصة للنميمة، ولا احد قادر على إبعاده عن هذين الأمرين حتى الآن.
القيل والقال هو افضل عمل قام به وهو دائما على معرفة بشيء جديد و يضر بسمعة اي شخص
يمكن أن تذكره في مدريد، فالنسيا، برشلونة، ومراكز سياسية اخرى. عندها استؤنف الغناء
مجدداً، ولا يمكنك الثرثرة برفع صوتك، لذلك بدا كأنه فترة ما بعد الظهيرة المضجرة في
مقهى شيكوت وقررت المغادرة حالما أشتري شراباً لنفسي.
بعدما استؤنف الغناء. مدني يرتدي بذلة بنية، قميص أبيض، ربطة عنق سوداء،
تسريحة شعره مستقيمة من جبهته العالية الى حد ما، الذي كان يتجول من طاولة إلى اخرى،
زرق احد النوادل بمسدس مائي. ضحك الجميع عدا النادل الذي كان يحمل صينية ممتلئة بالمشروبات
في ذلك الوقت. لقد كان ساخطا. قال النادل باللغة
الاسبانية " انت لا تمتلك الحق
". بما يعني، " ليس لديك الحق لفعل هذا "، وهذا يعتبر أبسط
وأقوى اعتراض في اسبانيا.
الرجل الذي يحمل المسدس, مسرور بنجاحه، ولا يبدو انه يعطي اهمية لحقيقة أنه في السنة الثانية من الحرب، وأنه يعيش في مدينة
تحت حصار حيث كان الجميع تحت ضغط، وانه كان احد الرجال الاربعة فقط الذين يرتدون زيا
مدنيا في ذلك المكان، والآن حقن نادلا آخر.
بحثت حولي عن مكان لكي أتجنبه. هذا النادل ايضا كان ساخطاً والرجل الذي
يحمل مسدسا رشّه مرتين إضافيتين وكان مستمتعاً بفعل ذلك. مازال بعض الناس يعتبرونه
أمرا مضحكاً، بما في ذلك الفتاة المتمردة . لكن وقف النادل يهز رأسه. كانت شفتاه ترتعشان.
كان رجلاً عجوزاً وعرفته يعمل في هذا المكان لعشر سنوات.
قال النادل بوقار " انت لا تمتلك الحق لفعل هذا ".
ضحك الناس مثلما ضحك رجل المسدس
المائي، الذي لم يلاحظ كيف خمد صوت الغناء، لكنه وجّه مسدسه الى رقبة النادل من الخلف.
استدار النادل الذي كان حاملا صينيته وقال"
أنت لا تملك الحق لفعل هذا ". هذه المرة لم يقولها احتجاجاً، لقد كان اتهاماً. رأيت ثلاثة رجال يرتدون الزي الرسمي ينطلقون من
طاولة لرجل المسدس ، وبعد ذلك مباشرة خرجوا أربعتهم من باب المبنى الدوار في عجلة من أمرهم وسمعت ضربة
عنيفة عندما ضرب أحدهم المسدس على فمه.
التقط شخص آخر المسدس ورماه خارج الباب من خلف ذلك الرجل.
عاد الرجال الثلاثة صارمين و متجهمين وراضيين عما قاموا به. ثم فُتح الباب
وجاء رجل المسدس المائي . كان شعره متدلياً في عينيه و والدم مغطياً وجهه وربطة عنقه
مسحوبة على جانب وقميصه ممزق.
استعاد سلاحه مرة اخرى، وبينما كان يندفع في المكان بعينيه الجامحتين ووجهه الشاحب، وجه سلاحه نحو حشد،
متحدياً.
رأيت أحد الرجال الثلاثة يتجه نحوه ورأيت وجه الرجل. كان هناك رجال كثر
معه والان وأجبروا رجل المسدس المائي على التراجع بين طاولتين على يسار المدخل ، في هذا الوقت كان رجل المسدس يقاوم بشدة ، وعندما
انطلقت الطلقة، أمسكت بذراع الفتاة المتمردة
وهرعت نحو باب المطبخ.
كان الباب مغلقاً بإحكام وعندما حاولت فتحه بكتفي لم يُفتح .
قلتُ " انزلي الى هنا خلف الزاوية ". فجثت .
قلتُ " انبطحوا " ودفعتها. كانت حانقة.
كل الرجال في المكان رفعوا السلاح ماعدا الرجل الألماني الذي اختبأ خلف
طاولة، والصبي الذي يبدو كأنه طالب مدرسة حكومية الذي وقف في زاوية نحو الجدار.على
مقعد بمحاذاة الجدار، كانت ثلاث فتيات ذوات شقرة مصطنعة فجذور شعرهن اسود اللون تقفن
على رؤوس أصابعهن وتصرخن بلا إنقطاع.
قالت الفتاة المتمردة " أنا لست خائفة ". " هذه سخافة ".
انا قلت " انت لا تريدين ان تصابي بطلق ناري في شجار مقهى
"
"
إذا كان لصاحب المسدس حلفاء هنا فلن تسير الأمور على نحو جيد مطلقاً "
من الجلي أنه لم يكن لديه حلفاء
لان الناس وضعوا اسلحتهم جانباً وأنزل احدهم الفتيات الشقراوات من على المقعد وعاد الجميع الى مكانه قبل اطلاق النار بينما رجل
المسدس بقي مستلقياً على الأرض.
صاح احدهم " ليس مسموحاً
لأحد بالمغادرة قبل وصول الشرطة ".
كان اثنان من رجال الشرطة يقفان قرب الباب حاملين بنادقهم حيث كانوا في
دورية الشرطة التي تجوب الشوارع وفي هذا الصدد
رأيتُ ستة رجال ينتظمون في صف كأنهم فريق كرة
قدم ويخرجون من الباب. كان ثلاثة منهم هم من قاموا بطرد الرجل في البداية. وكان أحدهم
هو الرجل الذي أطلق عليه النار. تسللوا من بين الشرطيين المسلحين ولكن مُنيت جهودهم
بالفشل . فقد قام شرطي بوضع بندقيته على الباب وقال" لن يغادر أحد، بكل ما تحمل الكلمة من معنى
".
"لماذا
غادر هؤلاء الرجال؟ لماذا تحتجزنا إذا بإمكان
أحد المغادرة؟ "
قال أحدهم: " انهم ميكانيكيين
اضطروا للعودة إلى عملهم ".
"ولكن إذا غادر شخص ، فمن السخف أن يُحتجز المتبقون
."
"
على الجميع يجب أن ينتظر مجيء الأمن، لا بد أن تجري الأمور بشكل قانوني وبتنظيم
"
"
لكن الا تعتقد انه شيء مضحك ان تحجز الاخرين بينما اي شخص يغادر ببساطة؟ "
"
لا أحد بإمكانه المغادرة وعلى الجميع الانتظار ".
قالت الفتاة المتمردة " هذه مهزلة " .
"
لا انه ليس كذلك، ببساطة، هذا أمر فظيع "
كنا نقف الآن وكانت تحدق بسخط في الارض حيث يستلقي صاحب السلاح المائي.
كانت ذراعيه مفتوحتان على مداهما وكانت إحدى ساقيه مضمومة للأعلى.
"أنا ذاهب لاقدم العون للرجل المسكين الجريح. لماذا لم يساعده أحد أو فعل أي شيء من أجله له؟"
قلت: "اتركيه وشأنه".
" لا تتورطي في هذا الأمر ."
"لكن هذا غير إنساني، لقد تدربت كممرضة وسأقوم بالإسعافات الأولية له ".
قلت: "لو كنت مكانكِ لن اقوم
بذلك ". "لا تقتربِ منه."
"لما لا؟" كانت مستاءة للغاية وفي حالة هرع.
قلت لها : "لأنه ميت".
عندما وصلت الشرطة احتجزت الجميع هناك لمدة ثلاث ساعات. بدأوا بشم رائحة كل المسدسات. لعلهم يكتشفون أي واحد تم إطلاق النار منه مؤخرًا. بعد حوالي أربعين مسدسًا بدا الملل جلياً عليهم
وعلى أي حال كل ما يمكن أن تشمه هو رائحة المعاطف الجلدية المبللة من المطر. ثم جلسوا
على طاولة منصوبة مباشرة خلف الرجل الراحل،
الذي كان مستلقياً على الأرض وكأنه صورة كاريكاترية من الشمع الشاحب ، بأوجهٍ وأيدي
شمعية رمادية شاحبة ، وفحصوا بطاقات الهوية الخاصة بـ المتواجدين في المكان.
من خلال قميصه الممزق كان بالإمكان ملاحظة انه لم يكن يرتدي قميصا داخليا
ونعلي حذائه مهترئ . بدا ضعيفا جدا ومثيراً للشفقة وهو ممدد على الأرض. ينبغي ان تخطو
فوق جثته لتصل الى الطاولة حيث يجلس الشرطيان ويفحصان بطاقات الجميع. اضاع الزوج وعثر على بطاقته مرات
عديدة من شدة التوتر.
كان يحمل جواز عبور في مكان ما لكنه اضاعه في احد جيوبه واستمر في البحث
والتعرق حتى وجده. ثم وضعه في جيب مختلف وكان
لزاما عليه البحث مرة اخرى. كان يتفصد عرقاً خلال بحثه حتى صار شعره مجعد ووجه شديد
الاحمرار. بدا مظهره الآن أنه ليس عليه فقط ارتداء ربطة عنق مدرسية عتيقة لكن واحدة
من القبعات الصغير للأولاد في الصفوف الدنيا. سمعنا عن كيفية ان الاحداث تشيب أرواح
الناس.
حسناً، اطلاق النار اعاده عشر سنوات
الى الوراء. وبينما نحن ننتظر، أخبرت الفتاة المتمردة بأن الامر برمته شكلّ قصة جيدة
جداً وبأنني سوف أكتبها في حين ما. الطريقة التي اصطف بها الرجال الستة وطريقة خروجهم
من الباب كانت أخّاذه . صُعقت الفتاة وقالت لي بأنه ليس ممكنا ان اكتب هذه القصة لان
في كتابتها اساءة لقضية الجمهورية الاسبانية.
قلت لها إنني امضيت فترة طويلة من الزمن في اسبانيا وأنهم اعتادوا على
مواجهة عدد هائل من حوادث إطلاق النار في الايام الخوالي لعهد الملكية المندثرة في فالنسيا، وأنه في الأندلس ولمئات السنين قبل قيام
الجمهورية كان الناس يقطعون بعضهم إرباً باستخدام سكاكين تدعى نافاجا ، وعلى اثر ذلك، إذا شاهدت إطلاق نار مثيرا للضحك في شيكوت أثناء الحرب يمكنني أن أكتب
عنه كما لو كان قد حدث في نيويورك، أو شيكاغو، أو كي ويست، أو مرسيليا. لا صلة للأمر
بالسياسة.
قالت لي الّا أفعل. ومن المرجح ان الناس يملكون نفس الرأي بألا أكتب القصة.
ومع ذلك، يعتقد الرجل الألماني،على ما يبدو، ان القصة متقنة، فأعطيته اخر ما املك من
سجائر " الجِمال ". أخيراً وبعد حوالي ثلاث ساعات سمحت لنا الشرطة بالمغادرة.
كان الجميع في فندق فلوريدا مضطرب البال عليّ الى حد ما. ففي تلك الأيام،
وبسبب القصف، يقلق الناس اذا عدت الى المنزل سيراً على الأقدام ولم تصل بعد اغلاق الحانات
في الساعة السابعة والنصف. كنت بغاية السرور لعودتي الى المنزل ورويت قصة اطلاق النار
لرفاقي التي لاقت رواجاً مبهراً بينما كنا
نطهو العشاء على موقد كهربائيّ.
لقد توقف المطر عن الهطول خلال الليل، و صباح اليوم التالي كان يوماً
جميلاً مشرقاً من أيام الشتاء وفي الساعة الواحدة الا ربعاً دخلت مقهى تشيكوت لأحتسي قليلا من الشراب قبل الغداء
. كان هناك قلة قليلة من الناس في ذلك الوقت من اليوم. أتى نادلان ومدير المقهى الى
الطاولة وكانت الابتسامة تعلو محياهم.
سألت " هل أمسكوا بالقاتل؟ "
أجاب مدير المقهى " لا تطلق النكات واليوم مازال في أوله "
"
هل رأيته يطلق النار؟ "
أخبرته " نعم ".
فقال لي " أنا أيضاً رأيته ".
" انا كنت هنا تماما عندما حدث ذلك. "
وأشار الى طاولة في الزاوية. " انه وضع السلاح مباشرة في صدر الرجل
عندما قام بإطلاق النار. "
"
كم من الوقت احتجزوا الناس؟ "
"
أوه، حتى الساعة الثانية من هذا الصباح " لقد كان مجيئهم فقط لأجل الفيامبري
"
"
في الحادية عشر صباحاً ".وفيامبري هي كلمة من الاسبانية العامية وتعني الجثة ،
ونفسها تستخدم في قوائم الطعام بما معناه لحوم باردة.
قال لي المدير" لكنك لا
تعرف شيئا عن هذا الامر لحد الان ".
وكان رد احد النادلين" كلا إنه لا يعرف. "
قال نادل آخر " إنه لشيء نادرٌ للغاية. "
قال المدير " قل لي "
" ومدعاة للحزن أيضاً ". وهزّ يده.
قال النادل" نعم، أمر محزن
وغريب "
"
محزن للغاية".
انحنى المدير فوق الطاولة بثقة ،
وقال "كان المسكين يضع ماء الكولونيا في المسدس"
قال النادل "كما ترى، لم تكن مزحته تفتقر إلى الذوق".
قال مالك المقهى " لم يكن الامر سوى مرحاً، لا يجدر بأحد اخذه كإهانة.
يا له من رجل مسكين. "
قلتُ " لقد أصبحت على دراية
بالامر "
"
كانت رغبته فقط ان يحظى الجميع بوقت ممتع. "
قال المدير " نعم "
"
لقد كان الأمر مجرد سوء فهم مؤسف. "
"
وماذا حصل للمسدس؟ "
"
أخذته الشرطة. وقامت بإرساله الى أسرته."
قلتُ " أظن أنهم سيسرون بإقتنائه. "
أجاب صاحب المقهى " نعم ".
"
بدون نقاش، مسدس الماء مفيد دائماً. "
"
من كان الرجل ؟ "
"
صانع خزائن. "
"
هل كان متزوجاً؟ "
"
نعم، زوجته كانت هنا مع الشرطة في الصباح. "
"
ماذا قالت؟ "
"
جثت على ركبتيها بقربه وقالت، پيدرو، ما الذي فعلوه بك، پيدرو؟ من فعل هذا بك؟ آه پيدرو."
قال النادل "ثم أبعدتها الشـرطة لأنها لم تتمكن من السيطرة على نفسها"
.
قال مالك المقهى " يبدو أنـه كان واهن الصدر ".
" لقد قاتل في صفوف الحركة منذ أيامها الاولى. يقال
إنه قاتل في سلسلة جبال سييرا لكن ضعفا في صدره منعه من مواصلة القتال. "
قلتُ " لهذا خرج بعد ظهر
الأمس ليضفي البهجة على المدينة " .
قـال المدير "كلا".
" فكما ترى ،الأمر نادر الحدوث . كل شـيء نادر . هـذا ما تعلمته من الشـرطة التي
يمكـن أن تتمتع بكفاءة عالية إن أتيـح لها الوقت الكافي. لقد استجوبوا رفاقه الذين
يعملون معه في المحل . وقد استطاعوا ايجاد المحل من بطاقته النقابية التي كانت في جيبه.
لقد اشترى المسدس المائي وماء الكولونيا البارحة ليستخدمها في مزحة في احدى حفلات الزفاف
. وكان قد أعلن نيته . وقد اشتراهما من من مكان عبر الشارع . كانت هناك قسيمة على زجاجة
الكولونيا تُبين العنوان . كانت الزجاجة في مرحاض المطعم ، حيث ذهب إلى هناك ليملأ
مسدسه . بعد شرائهما لا بد أنه جاء إلى المقهى عندما بدأ المطر يهطل " .
قال نادل " أنا أذكر عندما دخل ".
"
لقد انجرف مع تيار الفرح والغناء "
قلت له " نعم لقد كان فرحا
" .
"
لقد كان في الواقع يطير فرحاً".
حافظ مدير المقهى على منطقه الإسـباني الذي لا يتزحزح.
وقال " كانت هذه بهجة الشرب
مع وهن في الصدر ".
قلتُ" لا احبذ هذه القصة كثيراً."
قال المدير "استمع"
" لقـد التحم المرح عنده بجدية الحرب كما تلتحم
فراشة " .
أجبته " نعم، كما تفعل فراشة."
"تماما كمـا تلتحم فراشة".
قال المدير " انا لستُ أمزح ."
"هل تلاحظه؟ إن الأمر أشبه بالفراشة والدبابة
" .
لقد سـره هذا القول كثيراً ،
إذ تمكن من الولوج الى أعماق الميتافيزيقيا الإسبانية الحقيقية .
قال لي " احتسي شرابك في المنزل ".
"
لا بد أن تكتب قصة عن هذه الحادثة " . تذكرت صاحب المسدس و يديه ووجهه الشاحب.
وذراعيه المنبسطة على مداهما ، وساقيه المضمومتين إلى الأعلى ، فبدا كأنه فراشة الى
حد ما لكن ليس بكثير . ولكنه من جهة أخرى لم يكن يشبه البشر . كان يذكرني أكثر بعصفور
ميت .
قلت له ''أريد كأسا من الشراب " .
قال لي المدير " عليك أن تكتب قصة حول الحادثة. "
"
هنا. هنا يأتيك الحظ. "
أجبته " الحظ! "
"لقد
حذرتني فتاة إنجليزية ليلة أمس ألا أكتب عن الموضوع ، لأن في ذلك إساءة كبيرة إلى القضية
الاسبانية".
قال المدير " يا له من هراء" .
"ان الامر في غاية المتعة والأهمية،
حين يلتقي المرح الذي يساء فهمه
مع الجدية القاتلة المتواجدة هنا على الدوام . بالنسبة إلي أنه أندر شيء رأيته منذ
سنين والأكثر تشويقاً. يجب عليك الكتابة عنه" .
قلت له " لا بأس ".
"على
نحوٍ أكيد. هل لديه أولاد؟"
قال " كلا ، لقد سألت الشرطة. لكن لا بد لك أن تكتب القصة وأن تسميها
الفراشة والدبابة " .
أجبته " حسناً " .
"
بالتأكيد ، لكن العنوان لا يعجبني كثيرا ".
قال المدير " بل إنه بغاية الأناقة". "إنه الأدب بعينه ."
قلت "حسنًا".
"بالتأكيد. هذا ما سنسميها الفراشة والدبابة".
وجلست هناك في ذلك الصباح المرح المشرق، في المكان ذو الرائحة النظيفة
وجيد التهوية ، مع صديقي القديم، مدير المقهى الذي أصبح الآن بغاية السعادة بالأدب
الذي كنا نكتبه معًا وأخذت رشفة من الشراب. ونظرت من النافذة المحاطة بأكياس الرمل،
وفكرت في الزوجة الجاثية على ركبتيها الى جانب زوجها مناديةً: " پيدرو، پيدرو
، من فعل هذا بك يا بيدرو؟ ".
فكرتُ أن الشرطة لن تكون قادرة على إخبارها بذلك حتى لو حصلوا على اسم
الرجل الذي أطلق النار.