الطامة الكبرى
بقلم: ظلال حسن فتحي الدوري
في يوم أشرقت الشمس بنورها القوي الذي يشرق على بلدي على مدينة الموصل تحديداً من المعتاد أن الشوارع تزهو بالحافلات والسيارات والأطفال في الألعاب وكل شيء يسير بحياته الاعتيادية حتى الظهيرة حينما سمعنا طائرات تربك صفاء السماء وتعرقل الغيوم وحدائق المدينة التي تحلو بالزهور، الوجوه بدأت تتغير إلى اللون الأصفر، بدأ الأطفال يهرعون إلى البيوت مذعورين والأصوات تتعالى يا للهول ما الذي يجري عدت مسرعاً إلى المنزل وتركت باب الدكان مفتوحاً ذهبت إلى منزلي رأيت توأمي يونس وذو النون يصرخان في المهد كانوا متشابهين جداً قمر بنصفين حتى أنهم ذوو شعر بني فاتح وعيون زرقاء وكل منهم لديه خال في أعلى وجنتيه
ورأيت من تملك الفؤاد والمنزل زوجتي الرائعة صاحبة الابتسامة اللطيفة والقلب الحنون كان المنزل متّكِأً على قلبها ومستنداً على ظهري كنت طويل القامة أسمر البشرة شعري قليل جداً أميل إلى الصلع خشونة يديّ سر عميق لعيش منزلي برفاهية، تركت في تلك الظهيرة باب دكاني مفتوحاً والهول من صوت الطائرات أذهلني، وصراخ زوجتي يتردد على مسمعي وبكاء الأطفال يهدم قلبي كما القنابل المدفعية تهدم مدينتي، كان الهجوم والقصف الكثيف مرعباً، بدأ القصف يأخذ كل مكان حينها كان علينا أن نغادر كيف؟!
كيف سنخرج؟ إن جلسنا في منزلنا سنموت وإن خرجنا ربما ننجو ومن شبه المؤكد أننا سنموت والحياة تأخذني والقلق يلزمني.
زوجتي: كيف تركنا منزلنا الصغير الذي يحتوي حبنا.
تركنا الإناء ممتلئ بالطعام الذي جهزته زوجتي ولم نتناوله، لماذا هذا كل هذا يحصل؟ والجوامع تكبر، إنه يوم عسير على مدينتي، خرجنا والأطفال تصرخ وضعت زوجتي في فم كل منهم دواءً منوماً كي لا تؤلمهم حرارة الشمس ولا يجذب صراخهم الأعداء حتى أن ضوء الشمس الساطع وارتفاع حرارتها لم يؤثر على إصراري وعزيمتي إلى أن نذهب لأحمي بها عائلتي كما حميتهم بقلبي من قبل، كنت أود أن أضعهم بين أضلعي ولكن الدنيا غابة كبيرة وحوشها كثيرة وصدري لا يتسع سوى لحبي لهم سأتمكن من حمايتهم مسكت يدها اليمنى وهي ترتعش والبرود يحل بها رغم ارتفاع حرارة الجو ونبض فؤادها كاد أن يخرج من صدرها وتسارعت أنفاسها إنه الخوف الذي يضعفني، حملت أحد الطفلين وهي حملت الطفل الآخر. سرنا بين شوارع المدن الضيقة وجلسنا بين حين وآخر نفذ ماء الطرقات واتجهنا نحو الجبال والصحاري لا أعلم ماهي خارطتنا لكنها تبعدنا عن الأعداء بكل تأكيد، وفجاءة بدأ القصف العشوائي فإذا بشظية تضرب زوجتي في أعلى رأسها وسقطت على الأرض وفارقت الحياة تهشمَ رأسها وغابت ملامحُ ضحكتها وتناثرت ضفائرها مُتطايرةً بين غُبارِ الدمارِ ، ناديتها تحسسها والدماءُ تقطرُ من جسدها كانت جميلةً بهيةً حتى في موتها فتركت الجثة مفارقاً زوجتي الحبيبة باكياً خائباً تركت روحي عند جسدها ..... لأنجو بأطفالي حملت طفلي من بين يديها وأسرعت خطواتي رغم تعطل قلبي عندها وفي مسافة قصيرة وإذا بقذيفة تنفجر بالقرب مني وأنا حامل ذو النون ويونس سقطنا على الأرض جميعنا فإذا بأحد الأطفال يلفظ أنفاسه الأخيرة وبعد هنيه فارق الحياة بحبي له جعلت الارض حضناً له ودفنته رغم القصف على رأسي وندمت لأني لم أكرم زوجتي الغالية بدفنها لأن الوقت لم يسعني، فأصررت على دفنه وواريته بالتراب وحملت طفلي الآخر مكبلاً بالحزن والأسى والدموع تذرف من عينيّ كأمطار الشتاء وعصف من الحنين والألم عليهما وقضيت فترة بعيدة مبهمة من المسافة رأيت الشمس تجر خطوها الذهبية نحو الغروب وأنا أجر أذيال الخيبة لأنني فقدت أعزّ شخصين في حياتي واشتد الظلام عليّ فإذا بقبس من النور فلجأت إليه فتبين لي أني قد وصلت إلى بر الأمان رأيت راية بيضاء وجيوشاً عسكرية من أبطال بلادي ينادونني بمكبرات الصوت أنت في أمان اتجه إلينا نحن تحت خدمتك ومساعدتك وعند وصولي منطقه الأمان الذي يوجد في جيش بلادي قدموا لي الماء والطعام وعندما أخذت قسطاً من الراحة قمت بإيقاظ ولدي الذي نجوت به وحده من الأعداء لأعطيه قليلاً من الماء حاولت ايقاظه ولكن دون جدوى أيقنت أن مفعول المنوم قد انتهى منذ مدة وقمت بالصراخ في وجهه واحرك بجسده مسرعاً واضرب وجنتيه بحنيه وقلق وانثر عليه قطرات قليلة من الماء ولم يستيقظ ووقعت الطامة الكبرى على رأسي وإذا بي أني قد قمت بدفن الطفل السليم والحي غير المصاب وحملت الطفل الذي توفي فشبكت عشري على راسي وصرخت مدوياً وحضر كل الجيش مواشيا لي على مصابي فبقيت في حيرتي وندامتي أخذوا مني فلذة كبدي الأخيرة ودفونه أمام عيني ودفنوا روحي معه وانتهت عائلتي وانتهت حياتي معهم هذا ماجنت علي أعداء بلادي.